مخاطر الوصفة الأردوجانية

منذ 6 سنة | 1857 مشاهدات

نجح أردوجان في تركيا ببرنامج إقتصادي ليبرالي، فلماذا لن ينجح الإسلاميون به في مصر؟

          إن الإقتصاد ظاهرة إجتماعية، ومهما كنت مقتنعا بقدرة الإقتصاد الإسلامي على النجاح فلن تنجح به إلا في مجتمع تعيش غالبيته وفقا للمرجعية الإسلامية .. توجد فوارق موضوعية بين مايواجهه أردوجان في تركيا وما تواجهه الحركة الإسلامية في مصر، مازال الشعب التركي، بعد 15 سنة من نجاح حزب أردوجان في إدارة البلاد، لا تحمل أغلبيته توجها إسلاميا، وعندما بدأ أردوجان في صياغة برنامج حزبه كان يعلم أنه منذ سنوات قلائل لم يستطع حزب أستاذه، نجم الدين أربكان، أن يحصل بتوجهاته الإسلامية على أكثر من 20% من الأصوات، وذهب الباقي كله للأحزاب العالمانية، لذلك لم يعلن أردوجان ورفاقه أن حزبهم هو حزب إسلامي، وإنما هو حزب عالماني يضم الإسلامين مع القوميين الأتراك في فريق لا يسعى لإحداث تغييرات راديكالية في النظام والمجتمع، وإنما يسعى لإدارته إدارة جيدة ونظيفة لحل مشاكله وحسب، وأن هذا الحزب عندما يطالب بحق المسلمين في أن يمارسوا تدينهم فهو يفعل ذلك دعما للحرية الشخصية لكل المواطنين، وهو مطلب ليبرالي أصيل، كانت تقمعه الطغمة العسكرية الأتاتوركية، وبالنسبة للشرائح ذات التوجه الإسلامي التي شاركت في دعم أردوجان فإن إستعادة حقهم في ممارسة تدينهم الشخصي هو مكسب كبير، وقد تحقق هذا المكسب بفضل محاربة الفساد وإستقامة الحكم التي حسنت إلى حد كبير من أداء الإقتصاد التركي، وأدت إلى تأييد بعض الشرائح غير الإسلامية لإستمرار أردوجان في السلطة .. هذه بإختصار هي تجربة حزب العدالة والتنمية التركي.

          هذا هو إجتهاد مجموعة أردوجان، وربما كان هو الأنسب لظروف تركيا، وأهل مكة أدرى بشعابها، لكن علينا أن نتذكر عددا من الملاحظات بالغة الأهمية عندما نستشهد بالتجربة التركية على ما ينبغي علينا القيام به في مصر.

          أولا:  أن أردوجان ما زال حتى الآن مضطرا للتأكيد على أنه حاكم عالماني لدولة عالمانية، وأن تدينه هو مسألة إختيار شخصي له، وأن الحكومة لا تسعى لنشر الإسلام أو تعميق الإيمان به، وإنما تسعى فقط لإستعادة حق المتدينين في ممارسة تدينهم، ولذلك حصل حزبه على أصوات 43% من الأتراك، وأغلبيته البرلمانية ترجع لمهارته في التعامل مع نظام الإنتخابات بالقائمة، لكنها لا تعكس أن الحل الإسلامي قد أصبح مطلبا للأغلبية، ولا حتى أن هؤلاء ال43% يؤيدون كلهم الحل الإسلامي، فنسبة معتبرة منهم لا تؤيد إلا حزبا نجح في محاربة الفساد وتنظيم الدولة .. ربما يطوي أردوجان ورفاقه جوانحهم على رغبة صادقة في زيادة الجرعة الإسلامية بالتدريج حسبما تسمح الظروف .. قد يوفقهم الله، وإذا حدث فسيكون ذلك بسبب أن ما يقدمونه الآن من تنازلات قد حكمتها الضرورة، فهم ما يزالون في مرحلة دعوة قومهم للإسلام بعد أن تخلى عنه عمليا غالبيتهم .. ليس هذا حالنا، 80% من الشعب المصري أعطوا أصواتهم للإسلاميين في أول إنتخابات حرة، فما هو عذرنا كي نخفي توجهاتنا الإقتصادية الإسلامية، إن كانت موجودة، خلف قناع من التنازلات الليبرالية؟

          ثانيا:  أن الحل الليبرالي، إذا أدير بنجاح وإخلاص، يمكنه أن يزيد فعلا من حجم الناتج القومي الكلي زيادة كبيرة، وقد كان أستاذي الراحل عادل حسين يؤكد دائما على أن الحل الإسلامي سيكون عليه أن يقبل بالتنازل عن تحقيق أعلى معدلات نمو إقتصادي ممكنة، ويقبل معدلات أقل مما يحققه الإقتصاد الحر، في سبيل تحقيق الأبعاد السياسية والإجتماعية الإسلامية، خاصة في مجالي الإستقلال والعدالة الإجتماعية، فالحل الليبرالي، مهما تحلى القائمون عليه بالنوايا الطيبة، لابد أن يزيد من الفوارق الطبقية، وإذا كانت الزيادة في الحجم الكلي للإنتاج زيادة كبيرة (كما حدث في تركيا فعلا) فسوف يشعر الفقراء بتحسن طفيف في أحوالهم يجعلهم متفائلين بالنسبة للمستقبل ومستعدين للإنتظار على أمل أن يصلهم حقهم كاملا فيما بعد، لكن مع الزمن، كما تشهد بذلك تجارب المجتمعات المتقدمة، فإن الفقراء سيشعرون بإزدياد الفجوة بينهم وبين الأغنياء، فيتفاقم عندهم شعور بالظلم يجعلهم يتراجعون عن تأييد نظام ليبرالي .. هذا الوضع غير جائز وغير مقبول من نظام إسلامي.

          ثالثا:  ما زالت تجربة حزب أردوجان في بدايتها، ولم تلج بعد في عمق الحل الإسلامي (ودعك من الدعاية، فالواقع أن المكاسب على المحور الإسلامي في غاية التواضع) .. وأي نظام إقتصادي حر سيكون بالضرورة جزءا عضويا من النظام العولمي، وإذا كانت أمريكا لم تحاول بعد خنق الإقتصاد التركي فالسبب ليس في أنها لا تستطيع، بل لأنها لا تريد، فهي تعلم أن الشعب التركي ما زال عالمانيا في غالبيته، ولا داعي لإستفزازه بالخنق الإقتصادي، الذي سيولد عنده مشاعر عدائية تجاه الغرب، ويزيد من شعبية أردوجان .. ولكن بعد فشل محاولة الإنقلاب لا يمكنك أن تعرف ما الذي سيلجأ إليه العدو التاريخي للمسلمين إذا حاول أردوجان تجاوز الحدود المقبولة غربيا، فالإقتصاد التركي الذي يتلألأ أمام أعيننا هو في الواقع أسير تماما في قبضة النظام العولمي، يمكنهم تحطيمه بسهولة إذا أرادوا.

          نحن لا نقلل من إنجاز حزب أردوجان في تقريب الإسلام إلى الجماهير التركية، لكن أردوجان لا يقول أنه يحكم بهدف أسلمة كل جوانب الدولة والمجتمع، ولا يمكن لأحد أن ينسب إلى الفكر الإسلامي أي قصور قد يظهر في نظامه (ونظامه فيه قصور حقيقي من وجهة نظر الإستقلال والعدالة الإجتماعية)، أما الإخوان فإن الناس ترى أن برنامجهم هو برنامج الحركة الإسلامية، وكل قصور فيه سينسب إلى الفكر الإسلامي (وأخشى أن أقول أنه سينسب للإسلام نفسه، وهذا ما سيحاوله خصومه بالطبع) .. هذا فارق جوهري يجعلنا نسكت عن أردوجان ولا نسكت على مرسي، فك الله أسره.

          والحمد لله رب العالمين.

شارك المقال