إقتصاد مرسي وإقتصاد أردوجان - 1

منذ 6 سنة | 1841 مشاهدات

أظن أننا قد مللنا من تكرار القول بأن رغبتنا في أسلمة كل جوانب الحياة لا ترجع فقط إلى حقيقة أن هذا من مقتضيات التدين بدين الإسلام، ولكن أيضا لأننا نؤمن، وفي حالات كثيرة نعرف بالدليل العلمي، أن الحل الإسلامي هوالحل الأمثل لمشاكلنا، لذلك تملكني العجب حين قرأت البرنامج الإنتخابي للرئيس مرسي عندما أعلن أول مرة، فهذا البرنامج، خاصة في شقه الإقتصادي، هو برنامج ليبرالي قح، لا يصدر إلا عن أناس يؤمنون بصدق نظرية الإقتصاد الحر (النيوكلاسيكية)، وبأن القطاع الخاص إذا لم تتدخل الدولة في قراراته وسهلت له أموره سيقوم وحده بتحقيق التنمية الإقتصادية المستقلة على خير ما يرام، ورغم أن البرنامج يتحدث عن أهمية تحديد الأولويات الوطنية فإن هذا يظل كلاما فلسفيا طالما لم يذكر الأدوات والآليات التي سيستخدمها الرئيس وأجهزته في دفع الإقتصاد بإتجاه هذه الأولويات، فإقتصاد السوق الحر لا تحركه إلا حوافز الربح والمصلحة الخاصة للمستثمرين، ولا يكفي أن تحدد الدولة أولوياتها كي يعمل السوق تلقائيا على تحقيقها، والبرنامج لم يذكر في أي مكان أن الرئيس يرغب في إستحداث أية أدوات لتوجيه الإقتصاد (وهذا يبدو متسقا مع الروح العامة للبرنامج، لكنه يجعل فكرة تحديد الأولويات تبدو كأنها مجرد أمنيات سنسأل الله أن يحققها لنا بمعجزة من عنده).

          وعندما تحدث البرنامج عن العدالة الإجتماعية تناولها بنفس مفهوم دولة الرفاهية الليبرالية: ستعطي الدولة للقطاع الخاص حريته وتشجعه، فيزداد الإنتاج إلى أقصى حجم ممكن، فتحصل منه على ضرائب أكثر (بعض الدول الليبرالية تفرض أيضا ضريبة على الثروة بنسب أقل قليلا من الزكاة) وتستخدمها في تمويل بعض البرامج لإعادة توزيع الدخل .. ليس في هذا جديد، وهو ما تقوم به بالفعل كل الدول الرأسمالية بدرجات مختلفة من العمق والإتساع، وقد دخلت في مناقشات مطولة مع بعض الإخوان المتخصصين في الإقتصاد وفي التخطيط كي أوضح وجهة النظر التي تقول أن برامج دولة الرفاهية لن تعطي أي أثر يذكر في إقتصاد متخلف (ناهيك عن أنها لا تغطي كل مطالب التكافل الإسلامي)، وقد جمعت حصيلة هذه المناقشات وأدرجت أغلبها في كتابي "بؤس الحل الليبرالي" ولن أكرر هنا ما ذكرته هناك بالتفصيل، والذي ملخصه هو أنه في إقتصاد متخلف سيقوم القطاع الخاص، كما هو دأبه في كل مكان وزمان، بالسعي لإنتاج سلع الشرائح ذات القدرة الشرائية المرتفعة أولا، وبعد ذلك يبدأ التفكير في سلع الشرائح الدنيا، ولما كان إقتصادنا يعاني من نقص شديد في الموارد الإستثمارية فلن يتبقى من هذه الموارد ما يمكن توجيهه لإنتاج السلع الشعبية، والمثل الواضح على ذلك هو ما نراه في قطاع الإسكان، الذي يقدم فيه المستثمرون العقاريون المزيد والمزيد من الوحدات الفاخرة والمجمعات المغلقة والقرى السياحية، رغم وجود حوالي خمسة ملايين وحدة سكنية غير مسكونة (وقتها، عام 2012، ولا أعرف إلى أين وصلنا اليوم)، وفي نفس الوقت نعاني نقصا فادحا في الوحدات الإقتصادية .. كيف تتصور الدولة أنها ستتمكن من تقديم السكن للفئات محدودة الدخل؟ فمهما جمعت من ضرائب لن تجد أصلا وحدات لدعمها .. العدالة الإجتماعية بالمفهوم الإسلامي لا يمكن تحقيقها في سوق حرة لا تتدخل فيها الدولة بالتوجيه الفعلي، والليبرالية لا تضع العدالة الإجتماعية ضمن أهدافها مهما طنطن الليبراليون بكلام إنشائي عنها.

          كانت الحجة التي يستند إليها كل من ناقشتهم، غالبا، هي أن أردوجان قد نجح في تركيا بمثل هذا البرنامج، فلماذا لن ننجح به نحن في مصر؟

          هذه الحجة لا تأخذ في إعتبارها أن الإقتصاد ظاهرة إجتماعية، فمهما كنت مقتنعا بقدرة الإسلام على النجاح فلن تنجح به إلا في مجتمع تستند غالبيته إلى المرجعية الإسلامية .. توجد فوارق موضوعية بين مايواجهه أردوجان في تركيا وما تواجهه الحركة الإسلامية في مصر، وبين ما تتوقعه الجماهير التركية من حكوماتها، وما يتوقعه المصريون من حزب أيدوه لأنه سيحكم بالشريعة, وسنخصص المقال التالي بإذن الله لعرض أهم هذه الفوارق التي تجعل الإستدلال بالنجاح التركي غير مفيد عندما يكون الكلام عن المطلوب في مصر.

شارك المقال