عندما تتعارض الحرية مع الإستقلال

منذ 6 سنة | 1852 مشاهدات

ليس في هذا العنوان أي تلاعب لفظي، فعندما يكون الإقتصاد ضعيفا أو متخلفا فإن الحرية الإقتصادية تتعارض تماما مع الإستقلال الإقتصادي، والإستقلال الإقتصادي هدف تسعى إليه كل الدول التي تحترم سيادتها وترغب في إدارة إقتصادها لصالح شعوبها، بينما علاقات التبعية تؤدي إلى وضع تتم فيه إدارة الإقتصاد التابع لتحقيق مصالح المتبوع، ويضاف إلى ذلك عند المسلمين أن الإستقلال السياسي والإقتصادي واحد من المقاصد العليا للشريعة الإسلامية.

          والإستقلال الإقتصادي لا يعني بالطبع أن ننتج بأنفسنا كل ما نريد إستهلاكه بحيث لا نستورد شيئا من الخارج، هذا فهم سطحي للقضية، وإنما المقصود منه أن نحرص على أمرين، أولهما: أن نملك من القدرات الإقتصادية ما يجعلنا في وضع لا تستطيع فيه أي قوة أجنبية أن تفرض علينا إتخاذ قرارات لا نريد إتخاذها، وثانيهما: هو أن نكون على الدوام قادرين على تطوير وتنمية أنفسنا بالإعتماد على قدراتنا الذاتية، دون أن نضطر لإستيراد التكنولوجيا بشروط الآخرين، نشارك من نشاء منهم إذا كان ذلك في مصلحتنا، ونمتنع عن التعاون مع من نشاء إذا لم نرغب في ذلك، ولا نسمح لهم بالحجر على قدراتنا في التطوير، كي لا نضطر للإعتماد عليهم في الحصول على التكنولوجيا المتقدمة.

          أما الحرية الإقتصادية فتتطلب، ضمن أمور أخرى لا علاقة لها بموضوعنا هنا، أن نترك لصناعاتنا المحلية الحرية في إتخاذ القرار فيما ترغب في إنتاجه وما لا ترغب في إنتاجه، وأن نترك لمستثمرينا الحق في إنتاج ما يريدون بيعه في السوق المحلي أو إستيراده من الخارج، ونعطي للمستثمر الأجنبي حق الإستثمار عندنا بنفس الشروط التي يتمتع بها المستثمر المحلي دون أي تفرقة بينهما (أما أن نعطي لرأس المال الأجنبي مزايا وإعفاءات لا نعطيها لرأس المال المحلي فهذه عجيبة إقتصادية لا نعرف لها تفسيرا .. صحيح أننا يمكن أن نعطي مزايا للإستثمار في مجال معين على الإستثمار في المجالات الأخرى، لكن من غير المفهوم إقتصاديا، مهما كنا ليبراليين، أن نعطي للأجنبي مزايا لا يستطيع المستثمر المحلي الإستمتاع بها).

          ويستند الترويج لحرية التجارة الدولية على نظرية المزايا النسبية، والتي تقول أنه من الأفضل لك أن تتخصص في إنتاج السلع التي يمكنك أن تنتجها بكفاءة أكبر وتكلفة أقل (بسبب المناخ عندك أو توافر الموارد الطبيعية أو الأيدي العاملة الرخيصة أو غيرها من العوامل) وتصدر من إنتاجك ما يمكنك من إستيراد ما يتمتع فيه غيرك بمزايا نسبية، بإدعاء أن هذا في مصلحة الجميع .. هذه نظرية خيالية تعتمد على فرضيات غير واقعية، وقد قام العديد من الإقتصاديين بتفنيدها، ونحيل القارئ المهتم بالتفنيد النظري لها إلى كتابات الدكتور جلال أمين، وأهمها "فلسفة علم الإقتصاد"، ويكفينا هنا أن نشير إلى أنه لا توجد دولة واحدة، ولا واحدة، من الدول التي تمكنت من عبور فجوة التخلف، الصين والهند وماليزيا وكوريا الجنوبية واليابان من قبلهم والبرازيل من بعدهم وغيرهم، إلا ووضعت في مرحلة الإقلاع الإقتصادي شروطا على الإستثمار الإجنبي، حددت له القطاعات التي سيعمل فيها، وإشترطت عليه عددا من الشروط التي تضمن نقل التكنولوجيا وتدريب العاملين الوطنيين وإبقاء جزء معتبر من الأرباح ليعاد إستثماره في الوطن .. إلخ.

          حرية التجارة الدولية تكون دائما في صالح الأقوى، الذي يطالب بها ويدافع عنها، ولا يستجيب لها هؤلاء الذين يملكون إرادتهم إلا بعد أن يصبحوا أقوياء قادرين على إدارة الصراع في المنافسة الدولية، أما الذين لا يملكون إرادتهم فإن إستجابتهم لشروط المنظمات الدولية لتحرير التجارة الدولية لم تأت لهم أبدا بالخير .. كل الدول التي فتحت أسواقها مبكرا وتركت حبل إقتصادها على الغارب واجهت صناعاتها الناشئة منافسة غير متكافئة، قضت عليها، أو حولتها إلى مجرد مقاول باطن تعمل لحساب المستثمر الأجنبي، ولم تحقق أيا منها معدلات جيدة في التنمية، وعدد منها فشل حتى شارف على الإفلاس.

          الخلاصة: لا تنمية حقيقية بغير إستقلال إقتصادي، ولا إستقلال إلا إذا وضعت الدولة أولوياتها بنفسها، وحددت الوسائل التي تستطيع بها توجيه الإستثمار إلى تلك الأولويات، وحرصت في نفس الوقت على حماية الصناعات الوطنية الوليدة إلى أن تكتسب الخبرة ويشتد عودها في مواجهة المنافسة الدولية .. بإختصار: لا تنمية إلا إذا رفضنا الليبرالية الإقتصادية .. لماذا نؤكد على هذا الكلام الذي قد يجده البعض من البديهيات؟ .. نؤكد عليه لأن عددا من، أو لنقل غالبية، الإقتصاديين الإسلاميين، خاصة أولئك الذين أعدوا البرنامج الإنتخابي للرئيس مرسي – فك الله أسره – ما زالوا يتحدثون عن أن الإقتصاد الإسلامي هو إقتصاد حر .. سنزيد هذا القضية تفصيلا في ما بعد، ولله في خلقه شئون.   

شارك المقال