الوصفة المنسية لقوة المجتمعات الإسلامية

منذ 6 سنة | 1983 مشاهدات

أحسب أننا قد نسيناها بالفعل، مع أنها، بالإضافة إلى فاعليتها الكبيرة في دعم القوة الإقتصادية والتماسك الإجتماعي والمناعة السياسية، تعد من الواجبات الشرعية بالغة الأهمية، فكل من سألتهم عنها من الرجال والنساء والشباب والفتيات المهتمين بمستقبل المسلمين أجابوا بأنهم لا يعرفونها، أو بالكاد سمعوا الإسم دون أن يكونوا متأكدين من معرفتهم الحقة بالمسمى .. تلك هي الواجبات/الفروض الكفائية، وأنا شخصيا لم أجد شرحا لها إلا في كتب أصول الفقه، في جزء من مبحث صغير عن تقسيم الواجب من حيث تعيين من يجب عليه، وهو مبحث لا تزيد عدد صفحاته عن عدد أصابع اليد الواحدة، فكتب الأصول لا تقدم إلا المفاهيم، وليس عليها أن تخوض في تطبيق المفاهيم، فهذه مهمة الفقهاء.

          ويعرفه الشيخ أبو زهرة رحمه الله بأنه: الفرض الذي يكون المطلوب فيه تحقيق الفعل من الجماعة كلها، فإذا وقع الفعل من البعض سقط الإثم عن الباقين، وإذا لم يتم القيام به أثم الجميع، كالجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الإمامة الكبرى التي توحد المسلمين، وغير ذلك من الواجبات التي لا تجب على شخص بعينه، بل يجب على الجماعة تحقيقها متعاونة في أدائها، لأن هذه الواجبات تتعلق في أكثر أحوالها بمصالح الجماعة، والجماعة، بإعتبارها كلا واحدا متكاملا، مخاطبة بهذا الواجب.

          وقد تكلم الإمام الشافعي (رض) عن الواجب الكفائي في "الرسالة"، أول كتاب في أصول الفقه، وتوالى علماء الأصول من بعده في شرحه، وضرب الأمثلة له من عصرهم، وقد توسع الشاطبي في "الموافقات" في شرح هذا الباب، وأوضح أن القيام بهذه الفروض هو قيام بمصلحة عامة، والمسلمون مطالبون على الجملة بتحقيقها، فبعضعهم قادر على ذلك بنفسه، والباقون، إن لم تكن لهم القدرة على إنجازها، فإنهم قادرون على تقديم القادرين ودعمهم ومساعدتهم، فالناس تختلف مواهبهم، وتتفاوت قدراتهم، فمنهم من تلين له العلوم الطبيعية والرياضيات، ومنهم من يمتلك مواهب القيادة، أو إدارة الأعمال الصناعية والتجارية، ومنهم من يجد في نفسه ميلا وقدرة على الجهاد وإدارة الصراعات العنيفة .. إلخ، ويجب على المجتمع أن يوجه كل فرد من أفراده إلى المجال الذي يلائمه، ويمكنه من مباشرة العمل فيه، ويدعمه بما يحتاج من دعم مادي أو معنوي، ويقول الشاطبي "وبذلك يتربى لكل فعل هو فرض كفاية قوم، لأنه سير أولا في طريق مشترك، فحيث وقف السائر وعجز عن السير فقد وقف في مرتبة محتاج إليها في الجملة، وإذا كان به قوة زاد في السير إلى أن يصل إلى أقصى الغايات في المفروضات الكفائية، وبذلك تستقيم أحوال الدنيا وأعمال الآخرة",

          فمن وجهة نظر أصول الفقه فإن كل مصلحة عامة للمجتمع هي فرض على الكفاية، إذا قام به العدد الكافي لإنجاز المهمة فقد برئت ذمة الجميع، وإلا باءت الأمة كلها بالإثم، يأثم القادر لأنه تقاعس عن القيام بما يمكنه القيام به، ويأثم غير القادر لأنه لم يدفع القادر دفعا، ويعاونه بما يقدر، ويوفر له ما يلزم، وإن لم يكن عنده شيء يقدمه ضغط على من عنده ليقدمه، وهكذا .. في مجتمع المسلمين لا يكون العمل الذي يسد حاجة من حاجات الأمة مجرد عمل من أعمال الدنيا نقوم به كي نحصل على الدخل الذي ننفقه على معايشنا .. هذه نظرة ضيقة (وهي نظرة ليبرالية)، فكل ما تحتاجه الأمة، من أول جمع القمامة، حتى بناء المفاعلات النووية، هي أعمال نقوم بها إستجابة لأمر الله تعالى، نعلم في قرارة أنفسنا أنها ستضاف إلى رصينا يوم الحساب إن أخلصنا فيها النية .. هل يمكن لأي مجتمع آخر أن يصل إلى هذه الدرجة من القوة؟ .. إلى أن يبادر كل فرد في مجاله إلى بذل كل وسعه لصالح الجماعة حسبة لوجه الله تعالى؟ .. المؤسف أننا لا نربي أبنائنا على ذلك، ولا ننظر للعاملين في شتى المجالات هذه النظرة، بل أننا نحن أنفسنا لا ننظر إلى وظائفنا وأعمالنا إلا كمجرد وسيلة لكسب المعاش.

          المجتمع المسلم، الفاهم، الواعي، المدرك لتعاليم دينه ورسالته إدراكا حقيقيا، سيربي أبناءه على أن التصدي للمشاكل العامة هو فرض كفائي، وطالما أن المشكلة، أي مشكلة، لم تحل بعد، فينبغي على كل منا أن يقوم بما في وسعه، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، لكنه يكلفها وسعها ويحاسبها إن قصرت فيما تقدر عليه، وفي نفس الوقت فإن هذا المجتمع سيمارس ضغطا نفسيا شديدا على المقصرين والمتهاونين، ويقدم التقدير المعنوي للمجيدين .. لا أقول أن هذه الوصفة أداة سحرية سنحل بها كل مشاكلنا فورا، فهي لا تؤتي ثمارها الكاملة إلا بالتربية والتعود، لكنها وسيلة فعالة لا مثيل لها في تعبئة الجهود وتوجيهها لمواجهة مشاكلنا حسبة لوجه الله تعالى، بغض النظر عن العائد المادي الذي سيحصل عليه القائمون بهذه الأعمال.

          ونحن نحتاج اليوم إلى جهد معاصر لإعادة تعريف فروض الكفاية، ففقهاؤنا الذي تكلموا عن هذه الفروض في زمن حيوية الأمة كانوا يواجهون مشاكل عصرهم، فتناولوا قضايا الجهاد والحسبة والجنائز وصيانة الطرق الإقليمية، وفصلوا في الحلول حسب الوسائل التي كانت متاحة في تلك العصور، أغلب هذه القضايا صارت لها الآن أجهزتها المتخصصة والمتفرغة (الجيوش النظامية المحترفة للجهاد، والنيابة العامة للحسبة، وهيئة متخصصة للطرق، وهكذا)، ومع ذلك ما زلنا في حاجة لأن يدرك هؤلاء الناس أنهم يقومون بواجبات شرعية سيحاسبهم الله عليها، لكن تحديات التنمية والخروج من حفرة التخلف أضافت مجالات جديدة تحتاج لتعبئة جهود كبيرة تعجز دولنا عنها مهما إمتلكت من حسن النية .. هل نضرب أمثلة؟ .. الأمثلة أكثر من الحصر، وعندما نتعرض في مقالات مقبلة لتوجيهات الإسلام في الجوانب الإقتصادية سنعيد التذكير بأهمية إدراك الناس لدورهم في هذه الجوانب كواجبات شرعية على الكفاية.

          يمكنك أن تتساءل بالطبع: لماذا إذن لا تستغل حكومات الدول الإسلامية إذن هذه الأداة؟ .. الجواب ببساطة هو أن عليها أن تبدأ بنفسها أولا وتتبنى الحل الإسلامي، ولأسباب متعددة ترفض ذلك، وبناء عليه فقد إستبدلت بفكرة الفروض الكفائية التي يقوم بها الناس حسبة لوجه الله الكريم أفكارا أخرى، كالوطنية والقومية وغيرها من الدوافع التي قد يكون لها بعض القيمة، لكنها لا تقارن أبدا بالدوافع التي تقدمها تعاليم ديننا العبقرية, ولا حول ولا قوة إلا بالله.  

شارك المقال