الشورى من الدين، لكنها ليست في الدين

منذ 6 سنة | 1882 مشاهدات

سبب مقالنا السابق "الشورى ليست في الدين" تشوشا لدى بعض القراء، ومنهم من أساء فهمنا تماما، فظن أننا نقلل من أهمية الشورى، بينما نحن نعلم إتفاق كل العلماء على أن الشورى من عزائم الأمور التي لا يجوز لأي ولي أمر أن يتركها بحال، لا خلاف في هذه النقطة بين العلماء .. الخلاف يكمن في تعريف أهل الشورى، وفي قيمة ما يصلون إليه.

          بعضهم يقول أن إختيار أهل الشورى يرجع إلى الحاكم، هو الذي يقرر من الذين سيشاورهم، بينما يرى الآخرون أن أهل الشورى هم هؤلاء الذين يحوزون ثقة الأمة ورضاها، فإختيارهم إذن يرجع إلى الأمة، وتكون المسألة المطلوب بحثها هي كيف يتحدد هؤلاء الذين يثق فيهم الناس ويرضون برأيهم، ونحن ننحاز إلى هذا الرأي الأخير، ونرى أنه هو الفهم المقبول لأن يكون "أمرهم شورى بينهم" الشورى: 39، وأن الآليات الديمقراطية هي أفضل الوسائل المتاحة في عصرنا لتحديد أهل الشورى.

          والخلاف الثاني هو في مدى إلزام رأي أهل الشورى للحاكم، البعض يرى أن الواجب على الحاكم هو أن يشاور ليستزيد علما بالموضوع، لكنه صاحب القرار، يمكنه أن ينفذ ما في رأسه ولا يلتفت لما سمعه، وننحاز نحن للرأي الآخر الذي يرى أن قرار أهل الشورى ملزم للحاكم ولا يجوز له أن يضرب به عرض الحائط ويستبد برأيه، ولقد ناقشنا هذا الموضوع بإستفاضة في كتابنا "الإسلاميون والديمقراطية"، وستجد فيه بإذن الله الأدلة التي قادتنا للإنحياز إلى ما إنحزنا إليه.

          وللدكتور يوسف القرضاوي رأي قيم في الطريقة التي نحسم بها هذا الخلاف دون الدخول في جدل فقهي، فالشريعة تقرر أن ولاية الأمر هي عقد وكالة بين الحاكم والأمة، وكأي عقد وكالة يحق للأصيل (الأمة) أن تشترط فيه على الوكيل (ولي الأمر) ما تشاء من شروط تصبح ملزمة له إذا تولى على اساسها، لأن المسلمون عند شروطهم، فإذا إشترطت الأمة أن يكون تولي الأمر لفترة محددة، وألزمت ولي الأمر بتنفيذ قرارات أهل الشورى الذين يختارهم الناس إلى جواره، إنحسم الخلاف حول هذه القضايا، ولم يعد من حق الحاكم أن يختار أهل الشورى (ويظل من حقه بالطبع أن يستشير من يشاء في ما يشاء ليزداد علمه في أي مجال)، ولا أن يحاول التملص من الإلتزام بقراراتهم.

          الشورى من الدين قطعا وبلا جدال، رسختها آيات الكتاب وأحاديث الرسول (ص) وأفعاله، وإلتزم بها الراشدون في حكمهم .. لكن موضوع الشورى هو القرارات المتعلقة بممارسة السلطة العامة، أما تقرير أحكام الدين فلا تخضع للشورى.

          أحكام الدين في المسائل العملية، تمييزا لها عن أحكامه في العقائد والأخلاق، هي التي إصطلح على تسميتها بالأحكام الفقهية، وإستنباط هذه الأحكام من النصوص هو عمل المجتهدين، وليس لأحد أن يستنبط حكما جديدا إلا إذا تحصل على مؤهلات الإجتهاد التي نجدها في كتب أصول الفقه، بالضبط كما لا يجوز لأحد أن يعالج الناس إلا إذا حصل على مؤهل في الطب، ولا أن يبني مساكن إلا إذا حصل على مؤهل في الهندسة، ولا أن يترافع أمام المحاكم إلا إذا حصل على مؤهل في القانون .. وهكذا، وكما يذهب غير المتخصص إلى الطبيب أو المهندس أو المحامي إذا إحتاج علمه خبرته، فإنه يذهب إلى الفقيه إذا إحتاج لمعرفة حكما شرعيا .. ولا حجر على مجتهد أن يجتهد، وفي النهاية تقف كل المذاهب الفقهية على قدم المساواة، وكل مسلم يواجه مسألة شخصية (في أحكام الصلاة أو الحج أو الطهارة .. إلخ) يحق له أن يختار لنفسه المذهب الذي يتبعه .. لو كان في الإسلام مؤسسة دينية كهنوتية هي التي تحتكر حق تقرير الأحكام الشرعية فربما إحتاجت لوسيلة للمفاضلة والموازنة بين الآراء لإختيار واحد فقط منها، تتبناه وتعلنه ليكون هو رأي الدين، أما وقد رفض الإسلام مبدأ الكهنوت، فإن كل المذاهب المعتبرة، رغم إختلافها في كثير من الفروع، تعد من الدين، وليس إتباع واحد منها بأتقى أو أورع من إتباع آخر.

          أما الحكومة فعليها أن تتبنى رأيا واحدا في المسائل العامة وتفرضه على الجميع بقوة السلطان، وعلى كل الناس أن يسمعوا ويطيعوا، لا يملك واحد منهم أن يزعم أن له إجتهادا مختلفا .. إتخاذ القرار الذي سيخضع له الجميع هو موضوع الشورى، والمناقشة بين أهل الشورى لا تتعلق بالوصول إلى حكم شرعي، فالأحكام الشرعية قد وصل إليها الفقهاء، المطلوب من الشورى هو الوصول إلى قرار واحد لتنفيذه، كل نائب يصل إلى الجلسه وعنده فكرته الخاصة عما ينبغي عمله (أو المفروض كذلك، فالمقترحات توزع مسبقا وجدول أعمال كل جلسة معلن)، وخلافاتهم ترجع إلى أن كل منهم يرجح رأي مذهب فقهي معين في هذه المسألة، أو أن له تقديره المختلف لطبيعة المشكلة .. فالهدف من الشورى هو الخروج بقرار للتنفيذ، وليس الوصول إلى حكم في المسألة.

          ما الذي نريد أن نصل إليه من كل هذه المناقشة؟

          نريد أن نصل إلى أن كل هذا اللغط حول الخوف على أحكام الشريعة من إنحراف البرلمان هو لغط في غير موضعه، فالبرلمان، أو الشورى بأي طريقة نمارسها، لا تتعلق بالدين، ولكن ب"الأمر"، أي بالسلطة، والسلطة ستمارس بالضرورة وإلا إنفرط عقد المجتمع، وسواء أتخذت القرارات بشكل ديمقراطي أو إستبدادي فهناك قرارات، وهذه القرارات يتخذها بشر، وإلتزام هذه القرارات بأحكام الشريعة يعتمد على مدى تدين أصحاب السلطة .. وصاحب السلطة قد يخطيء وقد يصيب، قد يتقي الله أو يفسق عن أمره، كيف نحتاط حتى يكون إحتمال الخطأ والفسق أقل ما يمكن؟ الإسلام إختار لنا: أن يكون أمرهم شورى بينهم، لكنه لم يقرر آلية معينة لا تكون الشورى إلا بها، الآلية التي تحقق المبدأ بأفضل طريقة ممكنة هي الآلية واجبة الإتباع .. هناك آلية طورها الغربيون على مدار ثلاثة قرون وأثبتت أنها أفضل ما وصل إليه البشر حتى الآن لإلزام الحكام بإرادة الأمة، ولو كان عندنا ما يماثلها ما كنا لنصر عليها أبدا، المهم ألا نرفض إستخدام هذه الآلية ونترك نفسنا تحت رحمة إستبداد فرد واحد إحتمال خطأه أو فسقه أكبر بما لايقارن بإحتمال إنحراف عدد كبير من النواب تختاره الأمة بشكل دوري .. سواء تم الإختيار بالديمقراطية أو بغيرها إن وجد، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

شارك المقال