منذ 6 سنة | 3800 مشاهدات
الذين يرفضون فكرة أن إستخدام الآليات الديمقراطية هو فريضة شرعية في هذا العصر نأثم بتركها يستندون غالبا إلى أن الديمقراطية، لأنها تعطي البرلمان حق التشريع، قد تصل إلى سن قوانين تخالف قطعيات الشريعة، وقد بينا في المقال السابق دور الدستور والمحكمة العليا (أو الدستورية أو سمها ما شئت) في رفض أي قانون يخالف هذه القطعيات، لكن في الواقع تتعلق القضية بحق الأمة الواضح، الذي لولا تشويش فقهاء السلاطين ثم فتاوى زمن الأزمة (قرون الحروب الصليبية والغزو التتري)، لما كنا في الحاجة اليوم للكلام عنه.
من المعروف أنه كان لرسول الله (ص) صفتان ميز الصحابة (رض) بينهما، فهو النبي الذي ينقل إليهم الوحي – شريعة الله – وهو معصوم في القيام بهذه الوظيفة، ولا تجوز مناقشته فيما ينقله عن ربه، بله معارضته ("إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا .." النور: 51)، وهو في نفس الوقت الإمام أو القائد السياسي أو الرئيس المدني للدولة، وهو مأمور من ربه بهذه الصفة أن يشاور أصحابه ".. وشاورهم في الأمر .." آل عمران: 159، وفي حالات كثيرة كان الصحابة يسألونه: أهو الوحي أم الرأي؟ فإن قال الوحي قالوا سمعنا وأطعنا، وإن قال أنه الرأي سمحوا لأنفسهم بالمناقشة والإعتراض (كما في إختيار موقع الجيش في بدر، ومصالحة غطفان على شطر ثمار المدينة يوم الخندق، وفي مسألة تأبير النخل، وغيرها كثير) .. هذا هو أساس التمييز الواضح بين ما هو "دين"، وما هو "أمر".
ولم ينتقل الرسول (ص) إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن أتم الله الدين ".. اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكو الإسلام دينا .." المائدة: 3، لا نقص بعدها ولا زيادة، واجتمع الصحابة من فورهم في السقيفة ليتشاوروا في إختيار من يخلفه في "الأمر"، أي في القيادة السياسية .. في هذا الجانب كان أبو بكر خليفته .. خليفته في القيام ب"أمر" المسلمين، أي في ممارسة الرئاسة المدنية أو السلطة التنفيذية أو سمها ما شئت، وهذا "الأمر" نفسه هو الذي نزلت فيه الآية ".. وأمرهم شورى بينهم .." الشورى:39، أي أن الخليفة وظيفته هي إتخاذ الإجراءات اللازمة لتنفيذ القرار الذي يعبر عن إرادة الأمة وتصل إليه الشورى، هذا هو ما فهمه الصحابة من الآية التي تأمر بطاعة أولي الأمر "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر .." النساء:59، وهذا ما نفذوه، رضوان الله عيهم، الآية واضحة تماما في الفصل بين طاعة الله وطاعة أولي الأمر، فالمؤمنون غير مسموح لهم بالتأكيد أن يتنازعوا في طاعة الله، ولكن مسموح لهم أن ينازعوا أولي الأمر في فهم الوحي، أو في تطبيقهم لما هو فهم للوحي، وعند المنازعة يردون المسالة إلى كتاب الله وسنة رسوله .. كيف يفعلون ذلك؟ توجد طرق وآليات متعددة، ليس هذا هو مجال عرضها والمفاضلة بينها، المهم أن كل السلطات التي يمارسها الحاكم هي من "الأمر"، وهو في ذلك وكيل عن الأمة، وللأصيل أن يلزم الوكيل بما يشاء .. أما الدين .. أما فهم الوحي والإستنباط منه، فهو مهمة العلماء، وكما أن كل مسلم موكول إلى ضميره في إختيار العالم الذي يتبعه، لايوجد من يملك أن يفرض عليه قول في مذهب، فإن الأمة موكولة إلى ضمائرها في إتباع الرأي الفقهي، أو إتخاذ الموقف العملي، الذي تراه من طاعة الله ورسوله.
الآليات الديمقراطية تقول أن القرار يكون لنواب الشعب، فهم ممثلو الأمة، التي هي صاحبة الحق الحقيقي في "الأمر" .. في السلطة .. في الحكم .. هؤلاء المعترضون على الديمقراطية ينصب إعتراضهم على أن أغلبية البرلمان يمكن أن تصل إلى قرار يخالف الشريعة، ونحن نسأل: إذا كنت تريد إخراج بعض القضايا من المناقشة بحيث لا يحق للبرلمان أن يصدر فيها قرارا، فإلى أين ستنقل سلطة إتخاذ القرار في هذه القضايا؟ .. نحن لا نعرف في مجال السلطة إلا ولي الأمر – الرئيس أو الحكومة أو السلطان .. إلخ – ومعه أهل الحل والعقد – البرلمان أو مجلس النواب أو مجلس الشعب .. إلخ – فليس في الإسلام كنيسة ولا كهنوت معصوم نرد إليه هذه المواضيع لنضمن أن قرارها سيكون هو مراد الله .. حسنا .. هل سأل أحدهم نفسه أيهما أضعف في مواجهة شيطانه: الحاكم الفرد أم مجموعة كبيرة من نواب الشعب (هم في مصر حوالي 500)، هل تعتقد أن إحتمال وجود أكثر من 250 شخص يتفقون على الخروج على الشريعة هو أكبر من إحتمال أن يصل إلى السلطة – بطريقة أو بأخرى – شخص واحد يضعف ويخالف شرع الله؟
إذا كنت تسأل عن الطريقة التي نضمن بها ألا يخالف البرلمان شرع الله فعليك أن تقدم أولا إجابة عن سؤال أهم وأخطر: ما الذي يضمن ألا يخالف الحاكم نفسه شرع الله؟ فالحاكم يتعرض إلى إغراءات كثيرة وضغوط شديدة عند ممارسته للسلطة التنفيذية كي يستخدم صلاحياته إرضاء لمطامعه أو مطامع غيره، مثل هذه الضغوط والإغراءات لا يتعرض لها أعضاء البرلمان – تقريبا – فكيف تريد أن تعزل البرلمان عن بعض القرارات بزعم أنك تخشى أن يبتعد فيها عن الحق وتتركها للحاكم يرتع فيها كما يشاء؟ .. فكر بنفسك، ونسأل الله السداد
ملحوظة بعد النشر: يبدو أن هذه المقالة عانت من بعض الغموض، فسببت شيئا من الإرباك لبعض من قرأها، لذلك كتبنا إستدراكا عليها عسى أن يزيل اللبس، وهي المقالة التالية، فأرجو أن يقرءا معا.