قناع عبد الناصر الإسلامي

منذ 6 سنة | 2926 مشاهدات

ظن البعض أن ما ذكرناه في المقال السابق يشبه دعاية عبد الناصر لنظامه الذي سماه "الإشتراكية العربية" .. قبل أن نسترسل في شرح الملامح الرئيسية لنظام التكافل الإسلامي علينا أن نزيل هذا اللبس.

          بعدما أعلن جمال عبد الناصر قراراته "الإشتراكية" في يوليو 1961 إنطلقت حملة كبيرة، شارك فيها عبد الناصر بنفسه في عدد من خطبه، للتأكيد على أن هذه الطبعة من الإشتركية تختلف عن الطبعات الأخرى التي ساءت سمعتها عند شعوبنا، وإستخدمت هذه الحملة ذات الآيات والأحاديث وأفعال الصحابة التي إستند إليها فقهاؤنا في الوصول إلى وجوب تكافل المسلمين لضمان حد الكفاية لجميعهم، وكان هدف هذه الحملة هو تبييض وجه الإشتراكية العربية بزعم أنها تتوافق مع الإسلام وتستمد جذورها من تعاليمه، بل ذهب البعض إلى أبعد من ذلك، وألفوا كتبا تحمل عناوين مثل "إشتراكية الإسلام" و"الإشتراكية في الإسلام" .. إلخ.

          وقبل عبد الناصر بعدة عقود كتب أحمد شوقي ضمن إحدى قصائده في مدح الرسول (ص): "الإشتراكيون أنت إمامهم لولا دعاوى القوم والغلواء"، وبعد الحرب العالمية الثانية غيرت واحدة من فصائل العمل الإسلامي – مصر الفتاة – إسمها إلى "حزب مصر الإشتراكي"، لكن هؤلاء لم يكونوا يستخدمون الكلمة إلا بمعناها اللغوي الحرفي، إي مشاركة الناس في الإستمتاع بخيرات المجتمع، وقد أكد المهندس إبراهيم شكري رحمه الله، الوحيد من حزب مصر الإشتراكي الذي تمكن من الوصول إلى عضوية برلمان 1950، أنه عندما رشح نفسه لم يكن قد قرأ كتابا واحدا عن الإشتراكية، لكنه كان يراها كلمة جميلة تعبر عن معنى التكافل في الإسلام، لكن المشكلة هي أن "الإشتراكية" ليست كلمة نستعملها حسب معناها اللغوي، إنما هي مصطلح سياسي له معناه في الأدبيات السياسية والإقتصادية، ويجب إحترام هذا المعنى الإصطلاحي عندما نستخدمها في الخطاب السياسي، وهذا ما أدى إلى اللبس الذي نحاول الآن إزالته.

          تنقسم النظم السياسية التي حملت إسم الإشتراكية إلى قسمين، القسم الأول هو تلك التي قادتها أحزاب شيوعية إعتبرت أن الإشتراكية هي مجرد مرحلة متوسطة لابد من عبورها في الطريق إلى إقامة المجتمع الشيوعي،  هذه تجارب لها خلفية نظرية واضحة يمكن مناقشتها وتفنيدها وبيان إختلافها إلى حد التناقض مع مبادئ الإسلام، ونحن نقوم بذلك فعلا في سلسلة مستقلة من المقالات تحت عنوان "عن الماركسية والماركسيين"، نوضح فيها أننا نرفض هذا الأساس النظري، ليس فقط لأنه يرتكز على نظرة مادية إلحادية للوجود، ولكن الأهم: لأنه مجرد تلفيق منهجي غير علمي لايمكن أن ينجح في دنيا الناس.

          أما القسم الآخر فهو تلك التجارب التي أعلنت أنها لا تؤمن بالشيوعية، لكنها تريد حماية الشعوب من إستغلال الرأسمالية، وذلك من خلال سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج، بأن تمتلك كل المشروعات الكبيرة والمتوسطة، ولا تترك للقطاع الخاص إلا العمل في المشروعات الصغيرة حتى لا يتمكن من إستغلال الجماهير، وأعلن النظام الناصري أن صيغته الإشتراكية تعتمد على تحالف قوى الشعب العامل التي من بينها الرأسمالية الوطنية غير المستغلة، دون أن يشرح لنا أحد طريقة لتحديد مدى وطنية رأس المال، أو كيف نميز بين الوطني منه وغير الوطني، ودون تعريف لماهية إستغلال رأس المال، ومتى يكون غير مستغل.

          المهم أن كل هذه التجارب التي سميت بالإشتراكية، من كلا القسمين، كانت، وفقا للإقتصاديين الإشتراكيين والإقتصاديين الرأسماليين في آن معا، هي رأسملية دولة لا علاقة لها بالأفكار الإفشتراكية (ماركسية أو غير ماركسية)، فلم تكن وسائل الإنتاج خاضعة لإدارة العمال أو الشعب، وإنما كانت تدار بسلطة الدولة، والدولة توظف العمال وغيرهم كأي صاحب عمل رأسمالي، وتدفع لهم أجورهم وفقا للقواعد الرأسمالية, وهي التي تتولى بيع إنتاج شركاتها، ومن إيراد هذه المبيعات تحدد ما الذي سينفق لرفع مستوى معيشة المواطنين وما الذي سينفق على الأغراض الأخرى (الإستثمار في مشروعات جديدة والتسليح والبنية الأساسية وغيرها، وعلى الأخض: مخصصات الطبقة الحاكمة وأعوانها) .. في الواقع حلت الطبقة الحاكمة، سواء من عسكر عبد الناصر أو كوادر حزب البعث أو بيروقراطية الحزب الشيوعي السوفييتي، محل طبقة الرأسمالية الإحتكارية، وأصبحت هي أكبر صاحب عمل، وأكبر بائع، وأكبر مشتري .. أكبر من أي طبقة رأسمالية إحتكارية في أي مجتمع ليبرالي .. ربما تكون نسبة ما تحصل عليه الطبقات الدنيا من إجمالي الإنتاج في هذه النظم أكبر من النسبة التي يحصل عليها نظرائهم في النظم الرأسمالية، لكن الفاعليات الإقتصادية نفسها عانت معاناة شديدة بسبب سيطرة موظفي حكومة إستبدادية على كل شيء تقريبا، فتدنى حجم الإنتاج الكلي بدرجة خطيرة، فأصبح ما يحصل علية العمال فعلا في النظم الإشتراكية أقل مما يحصل عليه العمال في النظم الرأسمالية، فالنسبة الأكبر لا تعني شيئا إذا إنخفض الحجم الكلي إنخفاضا ملحوظا، حتى راج أن الإشتراكية هي المساواة في الفقر (وهذا لم يكن صحيحا، فالطبقة الحاكمة لم تعان من الفقر) .. وانتهى الأمر بإنهيار كل هذه النظم، أغلبها تفكك تماما واختفى من الوجود، كالإتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية ونظم الإشتراكيات العربية، أو أدركت القيادات عقم النظام فتراجعت عنه كما حدث في الصين وفيتنام وكوبا مثلا .. هدفنا هنا ليس هو نقد رأسمالية الدولة، وإنما بيان أن التكافل الإسلامي يحمل فلسفة إقتصادية وإجتماعية مختلفة تماما، وأن العدالة الإجتماعية ودور الدولة في توجيه الإقتصاد يتخذان عندنا نمطا لا علاقة له بنظام عبد اللناصر.

          دور الدولة المسلمة هو حراسة التكافل وتوجيهه ليحقق المطلوب منه، لكن المجتمع كله هو المسئول عن ضمان حد الكفاية لكل أفراده، وقد فرض الإسلام عدة آليات يجب الإلتزام بها (أهمها الزكاة ونفقة أولي القربى)، وتراقب الدولة العمل التلقائي لهذه الآليات وتحاسب من لا يقوم بدوره فيها، وبالإضافة إلى ذلك توجه تعاليم الإسلام المؤمنين للقيام طوعا وبالجهود الذاتية لسد ما قد يوجد من عجز في حصيلة الآليات المفروضة حسبة لوجه الله، ويسخر العالمانيون من فكرة الإعتماد على الجهود الطوعية إبتغاء الأجر في الآخرة، وسنخصص مقالات قادمة بإذن الله لإقامة الشواهد العملية من تاريخنا على أن الأمة قد إستجابت غالبا وحققت الجهود الذاتية جزءا مهما من واجبات التكافل.

          والدولة المسلمة لا تتدخل في الفاعليات الإقتصادية تدخلا مباشرا إلا عند الضرورة، فهي تضع الأولويات التي تمليها إحتياجات المجتمع (وكثيرون من المسلمين سيحترمون هذه الأولويات حسبة لوجه الله)، ثم تضع الحوافز السلبية والإيجابية حتى يستجيب للأولويات المستثمرون الذين لم تكف عندهم الدوافع العقائدية، وعندما تكون هناك مجالات مهمة يعجز عنها الإستثمار الخاص فعندها يجب على الدولة أن تتدخل بنفسها للقيام بما يجب القيام به، فالأصل عندنا هو أن المبادرات الفردية المسلمة هي الأقدر على القيام بالإبتكار والتطوير ومواجهة تحديات التنمية، مع الإقرار بأن الحالات غير العادية قد تستدعي تدخل الدولة .. قد يتبادر لفكر البعض أن هذه هي ذات الخطوط العريضة لدولة الرفاهية الليبرالية .. هذا غير صحيح .. وسنقوم في المقالات التالية بإذن الله بزيادة هذا الأمر تفصيلا، ولكن أرجو أن أكون قد أوضحت في هذا المقال أن الديبادات الإسلامية التي صاحبت إعلان قرارات يوليو 1961 الإشتراكية في مصر لم تكن إلا قناعا يخفي خلفه مشروعا عالمانيا لحمة وسداة، يختلف إختلافا بينا عما يمكن الوصول إليه في مجتمع تلتزم غالبية أفراده بتعاليم الإسلام.

Generic placeholder image
ezzat abdo || ezzatabdo19@Gmail.com

النظام الاشتراكي الذي ظهر في اواخر الخمسينات كان متابعه تقليدية لقيادات غير ناضجة الفكر مستبدة رغم الاسم (الاشتراكة) كانوا لا يقبلون اي اشتراك ادائي او توجيهي إلا من معهم ومنهم فحدث ان الأوجه الضرورية للمجتمع حدث لها تجبس وفقدت المرونة وظهر تعامل عافي بين الرياسات والشعوب في ظلمات اطاحت بالمجتمع عسكريا واقتصاديا نعاني منه حتي الآن.. مع الاحترام

شارك المقال