الفريضة التي نتجاهلها

منذ 6 سنة | 2657 مشاهدات

الكثيرون من المسلمين يحسبون أن الله لم يفترض عليهم في أموالهم إلا إخراج الزكاة، وما زاد عن ذلك فإنما هو على سبيل التطوع، إن رقت مشاعرهم وطابت أنفسهم أخرجوه، وإن أمسكوا فلا تثريب عليهم .. هذا قصور كبير في الفهم وتقصير شديد من الدعاة الذين أهملوا بيان واحدة من أهم فرائض الإسلام، وهي ضمان حد الكفاية لكل فرد من أفراد المجتمع المسلم، سواء كان مسلما أو غير مسلم (راجع المقال السابق)، وكل فرائض الإسلام مهمة، لكن في زماننا هذا، الذي إشتد فيه الأمر على الناس، ينبغي أن نؤكد على أن وجود من يفتقر إلى مقومات الحياة الكريمة في مجتمعنا لا يرجع إلى مجرد ضعف الأخلاق أو ضمور الأريحية، وإنما إلى تقصيرنا في القيام بأمر إفترضه الله علينا، أفرادا ومجتمعا ودولة، نأثم جميعا إذا لم يتم القيام به.

          والنصوص، من الآيات والأحاديث التي ورد أغلبها في الصحيحين أو متفق عليه، أكثر من أن تحصى في الدلالة على وجوب التكافل بين المسلمين حتى لا يبيت منهم محتاج، ومن أشدها – في نظري – جلاءا في بيان مركزية هذه الفريضة في تعاليم الإسلام الآيات "أرأيت الذي يكذب بالدين * فذلك الذي يدع اليتيم * ولا يحض على طعام المسكين" الماعون: 1-3، فحتى لو أطعم بنفسه، لكنه قصر في حض الآخرين على الإطعام، دخل في زمرة المكذبين بالدين .. يا للهول .. أي خطر نعرض أنفسنا له دون نلقي لذلك بالا.

          على أن الأمر أوضح وأجلى من أن نستدل له بآية أو حديث، لأنك ستجد أن طبيعة المجتمع الذي تتضافر النصوص على وصفه من أكثر من زاوية، مجتمعا متكافلا متضامنا في كل الجوانب، فريضة من الله، لا تطوعا ولا إحسانا.

                             ومن أكثر أئمة المسلمين إهتماما وتأكيدا وإستفاضة في بيان هذه فريضة ضمان حد الكفاية هو إبن حزم الظاهري، ربما لأنه عاش في القرن الخامس الهجري، بعد أن بدأ التحلل يدب في كيان نمط العلاقات الإجتماعية التكافلية التي غرسها الرسول (ص) في المدينة ورعاها صحابته (رض) حتى نمت وترسخت، بينما عاش الأئمة الأعلام في القرون التي كان التكافل فيها هو الأصل الذي لا يحتاج إلى الإستفاضة في البيان، لكن كلهم بينها وأدرجها ضمن الواجبات الجماعية، ونحن نولي أهمية إضافية لكلام إبن حزم بالذات لأن إلتزامه بالمذهب الظاهري جعله لا يعترف بقياس ولا مصلحة مرسلة ولا ذرائع ولا إستحسان ولا أي سبيل آخر لإستنباط الأحكام سوى ظواهر النصوص وإجماع الصحابة، فلا دخل للإجتهاد بالرأي في مذهبه، وإنما مجرد الإستناد إلى النصوص الصحيحة الصريحة، وقد فند إبن حزم الرأي الذي تبناه بعض الفقهاء الذين ذهبوا إلى أنه لا يجوز أن يفرض على المسلم في ماله أي حق سوى الزكاة، وناقشه مناقشة صارمة، لا تجد لأحد بعدها مجالا للأخذ أو الرد، وإنتهى في كتابه "المحلى" إلى أن قال: "وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك، إن لم تقم الزكاة بهم، ولا في سائر أموال المسلمين، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لابد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة" .. والحاجات التي أوردها إبن حزم في هذا الحكم إنما هي تنزيله للنصوص على ظروف عصره، وإذا تغيرت الظروف وتغيرت الحاجات الأساسية للحياة الكريمة فإن ذات النصوص التي إستند إليها تلزمنا بتعديل قائمة الإحتياجات، المهم هو ضمان حد الكفاية.

                   أما إمتداد هذه الفريضة لتشمل غير المسلمين الذين يعيشون في المجتمع المسلم فليس إجتهادا معاصرا متأثرا بأفكار المواطنة التي يراد لها أن تعلو على الفكرة الإسلامية، وإنما هو فعل الخلفاء الراشدين وإجماع الصحابة عليه .. هذه فكرة أصيلة راسخة في تعاليم الإسلام منذ بدأ، وأهم وثيقة في ذلك هي المعاهدة التي صالح بها خالد بن الوليد (رض) نصارى الحيرة بالعراق، والتي جاء فيها" وجعلت لهم: أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيا فإفتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين وعياله، ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام، فإن خرجوا إلى غير دار الهجرة ودار الإسلام، فليس على المسلمين النفقة على عيالهم" .. كتب هذا الكلام وأقره كل الصحابة الذين كانوا معه، ثم أقره الخليفة الأول أبو بكر الصديق ووافقه كبار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ولم ينقل عن أحد منهم الإعتراض على هذا الإلتزام، وأغلب الفقهاء يعدون مثل هذه الواقعة وحدها كافية لإثبات الإجماع الملزم للأمة من بعدهم، فما بالك وقد إستفاضت وتعددت بصورة ملفتة مثل هذه الوقائع في عهد الخليفة الثاني (رض).

                   هذه الفريضة تعد واحد من ركائز أي نظام يرد أن يكون إسلاميا، يجب أن يصاغ بحيث يكون قادرا على الوفاء به، وكل تقصير فيها هو تقصير في حق من حقوق الله .. التكافل ليس تطوعا ولا إحسانا، إنه واجب، تلزم به الدولة أهل كل منطقة، وتعينهم إذا عجزوا .. أما الآلية التي يتم بها ذلك فقضية أخرى، لن نتعرض لها إلا بعد أن نعرض كل ما نحسب أنه الواجبات الإقتصادية الأساسية للفرد والمجتمع والدولة في الإسلام.

شارك المقال