نطاق الشورى

منذ 6 سنة | 1845 مشاهدات

في الديمقراطية يمكن للبرلمان أن يناقش أي موضوع ويتخذ فيه ما يشاء من قرارات، أما في الشورى فلا يستطيع أهل الحل والعقد أن يناقشوا أية مسألة فيها حكم قطعي .. هكذا يضعون القضية، ليصلوا إلى أن البرلمان ليس هو أهل الحل والعقد، وأن الديمقراطية لا تصلح لممارسة الشورى.

          هل هذا صحيح؟ .. هل يستطيع البرلمان حقا أن يتخذ ما يشاء من قرارات؟ وهل حقا لا يمكننا أن نعتبر أن النواب المنتخبون هم هيئة أهل الحل والعقد الذين تكلم عنهم الفقه الإسلامي ونعطيهم ما لهم من صلاحيات ونطالبهم بالقيام بما عليهم من واجبات ؟

          لا يوجد في العالم كله برلمان واحد يمكنه أن يتخذ ما يشاء من قرارات دون أية قيود، ففي كل الديموقراطيات يتقيد البرلمان بالدستور، والدستور لا يعده الحاكم، إنما تعده هيئة مستقلة (المفروض أن تكون منتخبة ولا يعينها أحد)، ولا يستمد الدستور قوته الإلزامية إلا من موافقة الشعب عليه، وتقوم هيئة مستقلة غير خاضعة لأي تأثير من السلطة التنفيذية بالرقاية على قرارات البرلمان من حيث إتفاقها مع بنود الدستور، ولها سلطة إلغاء أي قرار أو قانون يخالفه .. هل تعرف البشرية حتى الآن طريقة أفضل من هذه لإلزام الحكام بإرادة الأمة (وليس بإرادة أعضاء البرلمان)؟

          أما أهل الحل والعقد، والقول بأن أسلوب تشكيلهم لم يكن بالإنتخاب كما هو الحال في البرلمانات المعاصرة، فقضية تتعلق بالخبرة التاريخية لأمتنا، ولا علاقة لها بجوهر فكرة أهل الحل والعقد.

          أهل الحل والعقد هم جماعة الناس الذين إذا عقدوا شيئا عقدته الأمة، وإذا حلت شيئا حلته، أي مجموعة القيادات المحلية التي تحظى في مجموعها بثقة الأمة وتمثلها في مواجهة السلطة، وتاريخيا كانت الغالبية العظمى من أبناء أمتنا تحكمهم العلاقات القبلية، وفي القبائل يتم إفراز القيادات بالطريقة التي يحددها العرف في كل قبيلة، أما التجمعات الحضرية، التي لا تسود فيها تلك العلاقات القبلية، فقد كانت تتمتع بإستقرار طويل بحيث تتجذر بين الناس علاقات متينة ومعرفة جيدة تمكنهم من إفراز قياداتهم الطبيعية التي يحتكمون إليها في أمورهم الحياتية بعيدا عن السلطة، لذلك فإن الفقهاء الذين تناولوا أحكام أهل الحل والعقد وسلطتهم في مواجهة الخليفة (تصل إلى عزله إذا إستوجب الأمر) نظروا إليها على أنها هيئة إجتماعية تتشكل بناء على الأعراف التي تحكم أجزاء الأمة المختلفة، ولم يقرروا طريقة معينة لتكوينها، فهي عندهم كيان موجود فعلا بطريقة عفوية تعود عليها الناس وإستقرت بينهم، لكن في عصرنا الحالي لم تعد توجد لدينا، إلا نادرا، تلك العلاقات الراسخة القوية الممتدة عبر الزمان، سواء على أساس صلات الدم، كما في القبائل أو العائلات الكبيرة، أو على أساس الجوار المستمر لأجيال عديدة، وغدا من المستحيل عمليا القول بأن الأمة ستفرز قياداتها المحلية بطريقة عفوية تعتمد على أعراف مستقرة .. إذا كنت تعرف طريقة أخرى غير الإنتخابات يمكنها أن تفرز في كل منطقة مجموعة من الأفراد يشعر غالبية الناس بالثقة فيهم ويقبلون الإنصياع لقراراتهم فبها ونعمت .. فهل تعرف؟

          حسنا .. وماذا عن إحتمال إقدام البرلمان على مناقشة مسألة فيها حكم قطعي؟ .. لسبب ما أشعر أن هذه القضية تثار عندنا لأننا إعتدنا على أن برلماناتنا لا يتم إختيارها بطريقة صحيحة، وهي عادة تأتي على مزاج الحكام، فنحن نخاف أن تفتأت البرلمانات على الشريعة مجاملة لهم .. إن فساد البرلمانات ليس خطأ الديمقراطية، وإنما هو نتيجة لخنوع الشعوب وتنازلها عن حقوقها، وفي هذه الحالة فكل النظم سيئة، والقهر والإستبداد هو ما تستحقه مثل تلك الشعوب، ومع ذلك تعال لنناقش هذه المسألة.

          إذا كانت لديك قائمة بالأحكام القطعية التي يجب أن يمتنع النواب عن مناقشتها لأن فيها حكم واحد معروف فضعها في الدستور بكل بساطة وارتح وأرحنا من هذا الموضوع، أما إذا كانت المسألة لا تتضح إلا بعد فهمها وتكييفها تكييفا شرعيا فلا يمكنك منع أحد من مناقشتها، لكن لديك هيئة الرقابة الدستورية التي سترفض أي قانون يخالف نصا قطعيا .. لكن تعال ننظر في السوابق التاريخية من عهد الراشدين، هل كان على أهل الحل والعقد، كبار الصحابة الذين يمثلون أهل شورى الخليفة، هل كان عليهم أي قيد فيما يناقشون أو لا يناقشون من قضايا؟ .. أبدا .. كانت المسألة تطرح أولا، ومن خلال المناقشة يتضح ما إذا كان في القضية حكما قطعيا واحدا أم تتعدد الإجتهادات فيكون القرار حيث توجد الأغلبية .. ليس في وجود أحكام قطعية لا يحوز مخالفتها ما يعد مبررا لعدم إعطاء أهل الحل والعقد – البرلمان – حق مناقشة كل ما يعرض لهم، وهم أنفسهم الذين سيمتنعون عن مخالفة الأحكام القطعية بموجب إسلامهم.

          قد تسأل: وماذا نفعل إذا تجاوز البرلمان وأصدر قانونا يخالف نصا قطعيا ولم تردعه هيئة الرقابة الدستورية؟ .. سؤال سمعته أيضا أكثر من مرة .. سنخصص له المقال القادم بإذن الله.  

شارك المقال