مفهوم متفرد للعدالة الإجتماعية

منذ 6 سنة | 1930 مشاهدات

لا نعرف ثقافة لا تعلي من قيمة العدالة، ولا أحد ينكر أن العدالة هي أن يأخذ كل ذي حق حقه، لكن عندما نصل إلى تحديد هذا الحق الذي يجب أن يصل إلى صاحبه يبدأ الإختلاف بين الثقافات، فحقوق الأفراد ليست مسألة بديهية يتفق عليها كل الناس، وبالذات في مجال حقوق الفرد الإقتصادية قبل مجتمعه، لذلك نلاحظ أن شعار تحقيق العدالة الإجتماعية الذي ينادي به الجميع يأخذ مضمونا مختلفا عند كل منهم وفقا لنوعية الحقوق التي يراها للفرد على المجتمع.

          الليبرالية، على المستوى النظري والفلسفي، لا تعترف للفرد بأي حقوق إقتصادية قبل مجتمعه، فالحقوق لا تنشأ إلا نتيجة التعاقدات الحرة، لايوجد للفرد حقوق لمجرد كونه عضوا في هذا المجتمع، الأجور تتحدد مثلا بناء على علاقات العرض والطلب على الأيدي العاملة، ويقتصر دور الدولة غلى إلزام الطرفين بالوفاء بما إتفقا عليه، لكنها لا تتدخل في هذا الإتفاق، إذا زاد عدد العاملين أو قلت الوظائف المتاحة فمن الطبيعي أن تنخفض الأجور، وتصر نظرية الإقتصاد الحر على أن أي محاولة من الحكومة لفرض حد أدنى للأجور سيتولد عنها ضرر للكفاءة الإقتصادية، والمنتجون بدورهم أحرار في الحصول على الربح الذي يرغبون فيه ويمكنهم تحقيقه، بل أن الكفاءة الإقتصادية سترتفع كلما سعى المنتجون أكثر فأكثر لتعظيم أرباحهم، لا يقيدهم إلا الإلتزام بقوانين منع الإحتكار وعدم الغش أو التحايل .. إلخ، وبعد ذلك فلكل واحد الحق في إنفاق دخله بالطريقة التي تروق له مادام يدفع الضرائب.

          صحيح أنه لا توجد دولة واحدة من الدول الليبرالية إلا وتقدم بعض برامج الرعاية الصحية والإجتماعية وتوفر قدرا من التعليم المجاني أو المدعوم .. إلخ (راجع مبحث دولة الرفاهية في "بؤس الحل الليبرالي" ص ص 42-43)، لكنهم لم يصلوا لهذا الوضع بسبب أنهم قد بدأوا في الإعتراف للفرد بحقوق إقتصادية قبل مجتمعه، لكنها ببساطة تدابير إتخذت لأسباب عملية صرف، بهدف المحافظة على السلام الإجتماعي، أو بعبارة أكثر وضوحا: لتهدئة الفقراء والمحرومين حتى لا يخرجوا على المجتمع ويقوموا بثورة تسقط النظام، والتبرير الوحيد الذي يعترف به الإقتصاديون الليبراليون للموافقة على تمويل هذه البرامج من ضرائب تفرض على الأغنياء هو أن دفع هذه الضرائب سيكون أقل ضررا من الخسائر التي ستلحق بهؤلاء الأغنياء إذا قامت ثورة إجتماعية، خاصة إذا قادها الشيوعيون، فتنزع منهم كل ثرواتهم أو أغلبها.

          أما الشيوعية فتقر بحق كل فرد في الحصول على كل إحتياجاته، ولن يتحقق هذا بالطبع إلا بعد الوصول إلى مجتمع الوفرة، لكن معايير العدالة في كل الفلسفات الشيوعية تطلب تحقيق المساواة التامة في مستوى المعيشة بين كل الأفراد مهما تدنى أو إرتفع هذا المستوى، هذه هي الأخبار السارة عند الشيوعيين، لكن المشكلة هي أن هذه الفلسفات تحرم الفرد من تملك أي شيء عدا ما يحتاجه للإستخدام الشخصي في الحياة اليومية، وتصر على الملكية العامة لكل وسائل الإنتاج، وقد أثبتت التجربة (بالإضافة إلى البراهين النظرية التي يأبى الشيوعيون الإعتراف بها) أن هذا الوضع يؤدي لإنهيار في الأداء الإقتصادي ما لم تستخدم الدولة وسائل شديدة القمعية في إدارة مواردها الإقتصادية، القمع والمركزية في كل النظم التي حكمتها أحزاب شيوعية أديا إلى عواقب وخيمة، كان نتيحتها إنهيار النظام السوفيتي ودول أوروبا الشرقية، وإلى تراجع النظام الصيني عن الإقتصاد الشيوعي إلى ما أطلقوا عليه إسم "إقتصاد السوق الإشتراكي"، وقد خصصنا سلسلة مستقلة لعرض ما نعتقد أنه قصور كامن في الفلسفة نفسها يعوق تقدم المجتمعات التي تتبناها (سلسلة "عن الماركسية والماركسيين")، فحلم المساواة الكاملة، رغم جماله الخلاب، هو حلم غير واقعي يصعب تحقيقه في دنيا الناس.

          لكن الإسلام له نظرته المتميزة لكل من ملكية وسائل الإنتاج وأسلوب توزيع هذا الإنتاج، فالملكية لها طابع خاص مستمد من فكرة أن المالك الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى، والإنسان مستخلف في هذا المال لتنميته لصالح المجتمع، له كامل الحرية في العمل مادام يلتزم بالأحكام الشرعية، وله حق الإستمتاع بفائض ناتج عمله بعد أن يؤدي حق المجتمع (ويسمى في إصطلاح الفقهاء عادة "حق الله")، فما هو حق المجتمع؟ .. يعطي الإسلام لكل مواطن يعيش على أرضه، مسلما كان أو غير مسلم، الحق في حياة كريمة، وليس مجرد الحق في الحصول على ما يحفظ بقاءه المادي وحسب، وإنما الحق في الحصول على ما يصل به إلى المستوى الذي يحفظ له كرامته الإنسانية، وستجد كتب الفقه تحدثنا عن هذا المستوى بإسم "حد الكفاية"، وتقول أنه المأكل والملبس والمشرب والمسكن الملائمين لحاله، وأن يعالج إذا مرض، وأن يحصل على ما يحتاج إليه من كتب العلم وأدوات الحرفة، وأن يتزوج إذا رغب في الزواج .. هذا ما قاله فقهاؤنا في قرون الإسلام الأولى، وعلينا بالطبع أن نعيد النظر في قائمة الإحتياجات التي تمثل حد الكفاية المعاصر وفقا لإمكانات عصرنا وأسلوب حياته، فما يليق بالمسلم المعاصر ليس هو نفسه ما كان يعد لائقا في قرون الإسلام الأولى، التي لم تعرف المرافق العامة مثلا فلم يشر فقهاؤنا إليها، لكن الفكرة هي أن هذه هي حقوق للمواطن قبل المجتمع، يخاطب الإسلام المؤمنين كلهم أولا ليعطوا لكل ذي حق حقه، ويخاطب الدولة بعدها كي تسهر على وصول الحقوق إلى مستحقيها.

          سنحتاج أولا إلى الكلام بتفصيل أكبر عن ما يمثله حد الكفاية في زماننا، وعن الوسائل التي فرضتها الشريعة على المسلمين لضمان هذا الحد، وعن المبادئ العامة التي صاغها الصحابة في زمن الراشدين لمسئولية الدولة والمجتمع والأفراد، قبل أن نوضح كيف أن المجتمع والدولة لن يتمكنا من القيام بهذه المسئولية، مهما تأكدت الإرادة وحسنت النوايا، في ظل إقتصاد حر، كالإقتصاد الذي يصفه البرنامج الرئاسي للدكتور محمد مرسي فك الله اسره.

شارك المقال