ليس إقتصادا حرا

منذ 6 سنة | 1742 مشاهدات

قد يتبادر إلى الذهن أن المكان الطبيعي لهذا المقال هو في ختام البحث، بعد أن نعرض الخصائص التي تجعل أي إقتصاد إسلاميا، وعندها يمكن أن نعرف هل هو حر أم موجه، وإلى أي وجهة يتجه، لكننا آثرنا أن نضعه في المقدمة من فرط ما كرر العديد من الإقتصاديين الإسلاميين – ومنهم هؤلاء الذين شاركوا في إعداد البرنامج الرئاسي للإخوان – أن الإقتصاد الإسلامي هو إقتصاد سوق حر، وأن كل المقاصد والتشريعات التي جاء بها الإسلام لا تتعارض مع هذه الحرية .. هذه فكرة خطيرة، وخطورتها تأتي من أنها تقود تلقائيا إلى إعتبار أن نظرية السوق الحر (النيوكلاسيكية – وهي عندنا ليست نظرية علمية) قادرة على أن تقود خطانا في بناء إقتصاد إسلامي، وأن القواعد والمبادئ المستمدة منها هي التي يجب أن نعتمد عليها في تنظيمنا لجميع الفاعليات الإقتصادية في مجتمعاتنا .. ولأننا نملك من الأسباب الموضوعية ما يجعلنا نعتقد بخطأ هذه الفكرة، وأنها تتحمل جزءا كبيرا من فشل نظام الرئيس مرسي، فك الله أسره، لأنها أعطت لجماهير الشعب الإنطباع، وهو إنطباع صادق للأسف، بأن إدارة الإخوان المسلمين للإقتصاد المصري ستسير على نفس خط نظام حسني مبارك، الفارق الوحيد هو أن الرئيس مرسي لن يسمح بالسرقة والنهب والفساد، لكنه لن يغير المنهج نفسه .. يجب تغيير هذه الفكرة عن المشروع الإقتصادي لحركة الإحياء الإسلامي، ليس لأننا نريد كسب الأصوات والعودة إلى السلطة، ولكن لأننا نسعى بصدق لبناء مجتمع إسلامي حقيقي، وهذا المجتمع لا يمكن أن ينهض في ظل إقتصاد حر على النمط الليبرالي الذي حكم فكر واضعي برنامج الإخوان الإقتصادي.

          سنبدا أولا بعرض الخصائص الرئيسية لإقتصاد السوق الحر، بأقصى قدر ممكن من الإختصار، حتى يدرك القارئ غير المتخصص حقيقة ما نتكلم عنه، ثم نردف بعدها أهم الحجج التي أقنعت مستشاري الرئيس مرسي، والرعيل الأخير من الإخوان المسلمين بصفة عامة (فحسب فهمنا: لم يكن الرعيل الأول منهم يفكر بهذه الطريقة)، بأن إقتصاد المسلمين هو إقتصاد سوق حر.

          يؤكد منظرو إقتصاد السوق الحر أن الدولة لا ينبغي لها أن تتدخل في الفعاليات الإقتصادية، فخلال سعي الأفراد والشركات لتحقيق مصالحها الخاصة بحرية تامة سيتم تلقائيا توزيع موارد المجتمع على الأنشطة المختلفة بأفضل طريقة ممكنة، ليتم الإنتاج بأقصى كفاءة، أي أن الإقتصاد سيقدم أكبر كمية منتجات بأفضل الأسعار، وكل تدخل للدولة سيؤدي إلى إنخفاض الكفاءة وتشوه الأسعار بطريقة تضر بالمجتمع كله، المنتجين والمستهلكين والعمال (للقارئ المهتم بالبراهين النظرية التي تقدمها نظرية الإقتصاد الحر على صحة ذلك: راجع "بؤس الحل الليبرالي" ص ص 18-25)، أما حقوق الفقراء والضعفاء التي أقرها الإسلام فإن الدولة ستمول برامج للرعاية الإجتماعية والصحية وغيرها من حصيلة ما تجبيه من ضرائب ورسوم وجمارك .. وزكاة .. إلخ، تماما بنفس الطريقة التي تقدم بها العديد من الدول الليبرالية هذه الخدمات تحت مسمى دولة الرفاهية، فنكون قد حققنا الخير من طرفيه، حققنا أفضل إستغلال للموارد وأعلى كمية إنتاج، وفي نفس الوقت نقوم بتوزيع هذا الإنتاج الوفير على كل الناس بالعدل، بدلا من النظم الإشتراكية التي توزع الفقر على الناس بالتساوي، وكأن الله لم يخلق إلا نظامين فقط، الليبرالي والإشتراكي.

          ولا شيء فيما جاءت به الشريعة في المجال الإقتصادي يتعارض مع حرية الإقتصاد، هكذا يقولون، فتحريم إنتاج بعض السلع وتجريم تداولها موجود في الدول الليبرالية (صحيح أن قائمتنا أطول، لكن المبدأ لا يتعارض مع الإقتصاد الحر)، وحماية التعاقدات ومنع الإحتكار والغش والتحايل .. إلخ هي من واجبات الدولة الليبرالية الحارسة .. والإسلام يحمي الملكية الخاصة حماية كاملة، ربما بأكثر مما تحميها التشريعات الليبرالية .. وعلى هذا ينتهون إلى أننا لسنا في حاجة لإعادة إختراع العجلة، سنقيم إقتصادا حرا ونطبق نظم الدول المتقدمة، وفي نفس الوقت سنحترم كل تعاليم الإسلام.

          سنخصص المقالات التالية بإذن الله لعرض بعض تعاليم الإسلام الأساسية (مقاصد وأحكام) التي لا يمكننا بأي حال أن نحترمها بإخلاص، مهما حاولنا، في ظل إقتصاد حر .. هل معنى ذلك أننا ندعو لما أسماه البعض في الستينات "إشتراكية الإسلام"؟ .. بالقطع: لا .. فالإسلام له منطلقاته ورؤيته للوجود والحياة والإنسان وقيمه الخاصة، وهي تتعارض أيضا مع أسس جوهرية في كل طبعات الفكر الإشتراكي، إنه، حسب تعبير الشهيد سيد قطب رحمه الله، نسيج وحده، وعلينا أن نتحمل عبء إبداع الآليات المعاصرة التي يمكننا أن ندير بها إقتصادنا في ظل أفضل مناهج الحياة الممكنة .. المنهج الإسلامي.

          "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين" العنكبوت: 69 .. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

شارك المقال