مقارنة لا تجوز

منذ 6 سنة | 1811 مشاهدات

أتابع بإهتمام وتركيز شديدين دروس الشيخ بسام جرار في التفسير على قناة "نون" اليوتيوبية، وغالبا ما أجد عنده لمحات في غاية الذكاء والعمق والجدة، ويرجع ذلك إلى تمكنه الواضح من العلوم الشرعية، بالإضافة إلى دراية واسعة بالعلوم الطبيعية الحديثة (تجده يستند إلى آخر ما قيل في الفيزياء الحديثة وميكانيكا الكم والكيمياء الحيوية والبيولوجيا الجزيئية وغيرها .. ما شاء الله)، إكتسبها غالبا من مناقشاته مع طلابه المتخصصين في شتى العلوم، وقد خصص فضيلته ستة حلقات كاملة (الحلقة حوالي ساعة) لموضوع الشورى والحكم، وأكد من خلال النصوص والسوابق التاريخية وعمل الراشدين أن ولاية الأمر لا تكون إلا بالرضا والإختيار، ووجه نقدا صريحا لاذعا لكل أنظمتنا المستبدة، وفضح التبريرات السمجة السخيفة والخاطئة التي يقدمها فقهاء السلاطين لتسويغ سلطة هؤلاء الحكام، وأتمنى لو أن كل مهتم بالموضوع رجع إلى هذه الحلقات .. لكنه في النهاية عندما وصل للديمقراطية، وعلى مدار 20 دقيقة، أجرى مقارنة بينها وبين الإسلام [!!] ليصل إلى أنها لا تصلح لنا .. وأظن أن الشيخ قد جانبه التوفيق في هذه النتائج بسبب ضعف المصدر الذي أمده بالمعلومات عن الديمقراطية، وكل أحد يؤخذ من كلامه ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.

          لقد وصل الشيخ الجليل إلى هذا الحكم بعد مقارنة بين بعض التشريعات التي أنتجتها الديمقراطية في الدول الغربية وبين عديد من الأحكام القطعية في الإسلام .. لقد سمعت هذه المقارنة من كثيرين، لكنها من الشيخ بسام جرار تكتسب ثقلا كبيرا يستدعي أن نتوقف بسببه عندها.

          إن الديموقراطية ليست فلسفة أو مذهبا فكريا حتى نقارنها بالإسلام أو أي منظومة فكرية أخرى، فهي ليست إلا وسيلة لإتخاذ القرارات العامة، وعندما يقول البعض أن الديمقراطية لا تقتصر على صناديق الإنتخابات فإنهم محقون، لكنهم ليسو محقين عندما يقولون أنها فلسفة حياة .. أبدا .. فالهدف الوحيد من تبني الديمقراطية هو أن تسير السلطات العامة حسبما تريد غالبية الشعب، لكن ليس للديمقراطية نفسها أي تأثير على هذا الذي يريده الشعب.

          لقد إرتبطت الديموقراطية بالنظم الغربية لأن مجتمعاتها تتبنى المذهب الليبرالي، وفي الليبرالية كل الناس أحرار متساوون (نظريا على الأقل)، وقد إبتكروا بعض الآليات وطوروها بكل همة كي تكون القرارات العامة والقوانين معبرة عن إرادة أغلبية المواطنين، وهذه الآليات هي التي نقصدها عندما نتكلم عن الديمقراطية، وتشمل الحق في الوصول إلى المعلومات وشفافية نظم الحكم وحق التعبير وحرية وسائل الإعلام وإستقلال القضاء عن السلطة التنفيذية وغيرها، حتى يتخذ المواطنون مواقفهم وهم على بصيرة، وأن يتخذوها دون ضغط أو تخويف، ولا يمكن القول أن التشريعات التي أصدرتها البرلمانات الغربية كانت على هذه الصورة التي لا نرضى عنها بسبب أي شيء في الديموقراطية، ولكن بسبب أن هذه الشعوب تحكمها الثقافة الليبرالية، فهذه التشريعات تعبر عن ثقافة هذه الشعوب والطريقة التي تريد أن تعيش بها.

          إذا كنت تؤمن أن القرارات العامة في مجتمعك يجب أن تصدر بالرضا والإختيار من غالبية المواطنين فإن المقارنة ينبغي أن تكون بين الآليات الديموقراطية والآليات الأخرى التي يمكن أن تتخذ بها القرارات، وأيها يضمن أكثر من غيره أن تكون السلطة خاضعة لإرادة الأمة، لا أن تكون المقارنة بين القرارات التي إتخذها شعب معين لنفسه والقرارات التي تحب أن يتخذها شعبك .. الديمقراطية مجرد أداة، والأدوات محايدة بالنسبة للنتائج، فالنتائج مسئولية من يستخدم الأدوات، فالسكين أداة للقطع، يمكن أن تقطع بها الخبز أو تقطع بها الرقاب، وعندما نتكلم عن ملائمة السكين فإننا نقارنها بأدوات القطع الأخرى، ولا نقارن قطع الخبز بقطع الرقاب .. والسيارة أداة للإنتقال، يمكنها أن تذهب للمسجد ويمكنها أن تذهب للخمارة، وعندما نريد تقييم السيارة نفكر في سهولة قيادتها وإستهلاكها للوقود وصيانتها، أي كفاءتها في النقل، ولا شأن للسيارة بالأماكن التي ستذهب إليها، فأنت الذي تقرر ما إذا كنت تريد أن تؤدي الصلاة أو تحتسي الخمر .. بنفس الطريقة في التفكير فإن نوعية التشريعات التي تصدرها البرلمانات الأخرى ومدى إنطباقها على معاييرنا نحن الأخلاقية ومبادئنا الدينية هو أمر لا علاقة له بتقديرنا لمدى ملائمة الديمقراطية لنا، المهم هو مدى مطابقة هذه التشريعات لمعايير الشعوب التي إنتخبت هذه البرلمانات .. مهمة الديمقراطية هي أخضاع السلطات لإرادة الشعب، فإن كانت هذه هي إرادة الشعب فالديموقراطية أداة جيدة.

هل المطلوب من النظام في دولة إسلامية شيء آخر غير أن تكون القرارات الصادرة عنه موافقة لما ترضاه الأمة؟ .. إجابة الشيخ بسام جرار هي أن الأمة هي صاحبة القرار، بالذات في إختيار الحكام .. حسنا .. إذا لم يكن لدينا حل آخر أفضل من الآليات الديموقراطية فهل يجوز لنا أن نرفضها؟

          يبقى السؤال الذي يثار من حين إلى آخر: إن الديمقراطية تعطي الحق للناس في إصدار ما يشاؤون من قرارات وتشريعات، بينما الإسلام يلزمهم بتشريعاته، فكيف تقول أن الديمقراطية نظام إسلامي؟ .. يحتاج هذا إلى مقال آخر .. وعلى الله قصد السبيل.  

شارك المقال