منذ 6 سنة | 3600 مشاهدات
سألتني سيدة أكن لها إحتراما كبيرا، فهي مثقفة ثقافة رفيعة، ولم تكن أبدا بعيدة عن الهم العام، سألتني باستنكار شديد: هل تريد حقا إعادة نظام الخلافة؟ .. لم تكن بالتأكيد متأثرة بالصورة الكاريكاتورية الشائهة التي إعتادت السينما أن تظهر بها الخليفة على هيئة هارون الرشيد ترقص أمامه الجواري ويقف إلى جواره مسرور السياف متأهبا على الدوام ليقطع فورا رقبة كل من لا يرضى عنه الخليقة، لكن الخلافة عندها كانت تلك الصورة الكريهة لسلاطين آل عثمان في أحط عصورهم، حكاما مستبدين متخلفين أطلق عليهم فقهاؤهم الملاكي "ظل الله في الأرض"، وأسبغوا على حكمهم قداسة لا يعرفها الإسلام، وهي الصورة التي تربى عليها جيلنا تحت تأثير كتابات العروبيين الثائرين على إصرار الدولة العثمانية الغبي في عهدها الأخير على تتريك الدولة، ومن المؤكد أن مواطنا يحب بلاده لا يمكن أن يقبل لها مثل هذا النوع من الحكومات.
وفي المقابل قدم الأمين العام لجماعة الإخوان المسلمين في لقائه مع قناة الجزيرة تعريفا آخر للخلافة (راجع تعليقاتنا على هذا اللقاء، خاصة المقال الأول والمقال الأخير)، فهي عنده إتحاد الدول الإسلامية تحت ظل قيادة واحدة، ليست بالضرورة قيادة فردية، إنما أي شكل من الأشكال التي يمكن أن يعيش المسلمون تحتها كأمة واحدة، قد يكون إتحادا فيدراليا أو كونفيدراليا، وقد يكون إسمها الولايات المتحدة الإسلامية، أو إتحاد الجمهوريات الإسلامية، الإسم لا يهم، المهم أن جوهر الخلافة عنده هو أنها التعبير عن وحدة كل المسلمين في أمة واحدة.
لا نختلف مع الدكتور محمود حسين حول هدف توحيد العالم الإسلامي بأي شكل من الأشكال اللامركزية تتمتع فيه كل دولة بخصوصيتها وإستقلالها الذاتي بينما تجمعهم معا رابطة تجعلهم يواجهون العالم ككتلة واحدة، ولكننا نختلف معه في أن هذا هو جوهر فكرة الخلافة، أو أن له أي إرتباط بها، فالخلافة يمكن أن توجد بدون هذه الوحدة، وبالطبع يمكن، نظريا على الأقل، أن تتم الوحدة، وأن تسمى دولتها بإسم "الخلافة الإسلامية"، دون أن تكون هي الدولة التي نتكلم عنها، والتي نعتبر أن السعي لقيامها هو جزء من فهمنا لتعاليم ديننا وتعبدنا لله به.
نحن نجد خطورة في ربط مفهوم الخلافة بفكرة وحدة العالم الإسلامي في أمة واحدة، كلاهما هدف عزيز وغالي، ولكنهما شيئان مختلفان، واعتبارهما نفس الشيء يؤدي إلى تشوش في عمل حركة الإحياء الإسلامي.
الخلافة هي أي حكومة، مهما كان شكلها، ومهما كانت حدود دولتها، تلتزم هي وشعبها بنمط النبوة في القيادة السياسية .. فقط.
تزخر أدبيات حركة الإحياء الإسلامي بالكلام عن مواصفات الحكم في دولة إسلامية، وهذه المواصفات أوسع بكثير من نظام قانوني خاضع للأحكام الفقهية، فالدائرة تشمل العمل على تحقيق مقاصد أخرى مهمة، كالشورى، والمساواة، والعدالة الإجتماعية بمعناها التكافلي الشامل، والإستقلال السياسي والإقتصادي والحضاري، وغيرها، وقد توزعت اليوم أمة الإسلام على عشرات الوحدات السياسية المنفصلة التي لا يقوم الحكم في أي منها على منهاج النبوة، حتى النظام الذي أقامه عبد العزيز آل سعود في الجزيرة العربية وإدعى أنه ملتزم بشريعة الإسلام، فقد إكتفى بتطبيق أحكام الفقه الحنبلي على الطريقة الوهابية في بعض المسائل الفردية (وليس كلها)، وأعرض بشكل يكاد يكون كاملا عن أحكام هذا الفقه نفسه في الشأن العام، يكفينا أن نتذكر أنه مجرد حكم وراثي إستبدادي قمعي مطلق، وليست هذه هي كل نقائصه، لكن تقييم حكم آل سعود ليس هدفنا.
هل ينبغي علينا أن ننتظر حتى تتوحد هذه الكيانات لنبدأ التفكير في إقامة خلافة على منهاج النبوة؟ .. بالقطع لا، لا يمكن أن يفكر بهذه الطريقة من يفهم مقاصد الإسلام وطريقته في بناء أمته.
إذا وصلت الأغلبية في أي وحدة من هذه الوحدات السياسية (التي نسميها الدول الإسلامية) إلى قناعة بضرورة أن يكون الحكم فيها على منهاج النبوة (فالحكم الإسلامي لا يمكن فرضه بالقوة، راجع مقدمة كتابنا "الإسلاميون والديمقراطية")، فصاغت نظمها السياسية والإقتصادية والإجتماعية لتتفق مع شريعة الإسلام (التي هي أوسع من الفقه) فإن الحكم فيها سيكون بإذن الله خلافة على منهاج النبوة، مهما كان النظام الذي ستختاره أو تبتكره لذلك، الشرط الوحيد هو أن يتم هذا الإختيار بالرضا وعن طريق الشورى.
هل معنى هذا أن حكام هذه الوحدة السياسية المنفصلة ستمتد سلطتهم لتشمل كل مسلمي العالم، كما يفترض الكثيرون عن الخلافة؟ .. بالقطع: لا .. فتصور أن الخليفة يحوز سلطة على كل المسلمين هو تصور خاطئ تماما، فحتى السلطة السياسية لرسول الله (ص) لم تمتد لتشمل كل المسلمين في زمنه، وإنما إقتصرت ولايته السياسية على هؤلاء الذين هاجروا إلى المدينة المنورة، أي على الوحدة السياسية التي أقامها، أما الذين قبلوا الإسلام دينا ولم يهاجروا ليكونوا من مواطني دولته فنجد حكمهم في الآية 72 من سورة الأنفال: "إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أولئك يعضهم أولياء بعض، والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا، وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا قوم بينكم وبينهم ميثاق، والله بما تعملون بصير", فواقع دولة الإسلام في زمن الرسول (ص) هو أنها ضمت سكان إقليم المدينة المنورة الذين إرتضوا طواعية حكم محمد بن عبد الله (ص) ودخلوا في ميثاق "الصحيفة"، من مسلمين ومشركين ويهود، أما المسلمون المقيمون خارج إقليم المدينة فتجب لهم النصرة في الدين، في الدين فقط، أي إذا إضهدوا بسبب إسلامهم، وليس لأي سبب آخر.
فإذا قام حكم إسلامي على منهاج النبوة في وحدة سياسية أخرى فإن الإسلام يأمرهم بالإتحاد مع إخوانهم، وإقامة سلطة تعلو السلطتين لمواجهة العالم كوحدة واحدة، مع بقاء الإستقلال الذاتي لكل منهما، إذا إختار المواطنون هذا النوع من الإستقلال، فقد دخلت في الإسلام بعد الفتح قبائل وملكيات، وأقرهم الرسول (ص) على نظمهم الداخلية وعلى قياداتهم، واستمرت السلطات التقليدية (ما دامت متمعة برضاء أهلها) قائمة تطبق بنفسها شريعة الإسلام، على أن تقف خلف القيادة العليا للرسول (ص) في مواجهة الآخرين.
هذه بإختصار هي معالم الخلافة التي نتكلم عنها، وبالطبع توجد تفاصيل لا حصر تحتاج للبيان قبل أن يطبق هذا على أرض الواقع، لكننا لا يمكن أن نتخذ فيها قرارا الآن، بل لا يصح الكلام عنها، فهي تخص هؤلاء الذين سيمكنهم الله من إقامة الخلافة، وظروفهم، وإجتهاداتهم في مواجهة هذه الظروف.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.