منذ 6 سنة | 4006 مشاهدات
إذا سألت: ما هو الإقتصاد؟ فستجد أن كل المراجع تقدم تعريفات تدور حول أنه مجمل الفعاليات التي يقوم بها الناس لأشباع رغباتهم وإحتياجاتهم المادية، لن تجد خلافا يذكر إلا في الصياغة أو في مستوى التفصيلات التي يشملها التعريف، لكن بمجرد أن تسأل عن المشكلة الإقتصادية وطرق التعامل معها فستجد كل أنواع الإختلافات التي يمكن أن تخطر بالبال، ويدور الكلام في المشكلة الإقتصادية حول محورين:
الأول: الكفاءة .. أو كيف نستغل مواردنا لتحقيق أفضل إشباع ممكن لإحتياجاتنا ورغباتنا، وهنا ينشعب البحث عادة إلى قضيتين: كيف نوزع الموارد لننتج أكبر كمية ممكنة من السلع والخدمات، وكيف نفاضل بين السلع والخدمات المختلفة عندما لا تكفي الموارد لإنتاج كل ما نريده.
والثاني: التوزيع .. أي كيف يتم توزيع عائد الفعاليات الإقتصادية على هؤلاء الذين شاركوا في الإنتاج، بمعنى آخر: ما هي معايير العدالة التي ينبغي مراعاتها عندما نقوم بهذا التوزيع.
وهنالك ثلاث مداخل للتعامل مع هذه المشكلة: العلمي والمذهبي والنظامي:
العلم الإقتصادي: يهدف البحث العلمي في أي مجال إلى محاولة فهم الواقع وتفسيره كما هو، فالعلم لا يجب أن يورط نفسه بإصدار أحكام قيمية على الواقع بأنه خطأ أو صواب، عدل أو ظلم، فالهدف من البحث العلمي في الإقتصاد ينصب على معرفة القوى التي تحرك عناصره والعوامل التي تؤثر فيه والطريقة التي يؤثر بها كل عامل، وذلك حتى يمكننا بناء نموذج نظري للظاهرة الإقتصادية يساعدنا على التنبؤ بسلوكها في المستقبل والتحكم فيه، والتنبؤ هو محاولة استكشاف النتائج التي سيصير إليها الواقع إذا حدثت حوادث معينة أو قمنا بأفعال محددة، أما التحكم فهو عكسه تماما، أي أن نعرف ما الذي يجب أن نفعله أو لا نفعله إذا أردنا الوصول لنتائج معينة، لكن تحديد النتائج المرغوبة أو غير المرغوبة، والوسائل المقبولة أو غير المقبولة، ليس من مهمة العلم، فهذا هو دور المذهب.
إذا كان العلم محايدا بهذه الصورة، فلماذا يتكلم البعض عن نظرية إسلامية في الإقتصاد؟ .. سنناقش في موضع آخر مسألة الحاجة إلى مثل هذه النظرية.
المذهب الإقتصادي: ينبغي أن يبدأ المذهب من الخصوصية الثقافية للمجتمع (راجع مقال "الخصوصية الثقافية")، أي من التصورات السائدة عن الوجود ودور الانسان فيه وعلاقته بسائر البشر، وما يعد أهداف مرغوبة أو أضرار محذورة، وأن يأخذ في اعتباره نوع الدوافع والحوافز التي يمكن أن تتناغم مع المنظومة القيمية والاخلاقية للمجتمع، فالمذهب هو الذي يصوغ بصورة علمية الأهداف التي يسعى هذا المجتمع لتحقيقها، والوسائل التي يفضل إتباعها في ذلك .. على هذا الأساس لا تعد صياغة مذهب إقتصادي عملا علميا صرفا، فهو في الحقيقة منتج ثقافي حضاري خاضع للمعايير القيمية لمجتمع معين (عن العدل والظلم، الخير والشر، والخطأ والصواب .. إلخ)، ومع ذلك فلابد لصياغة مذهب فعال يمكنه أن يؤثر على أرض الواقع من تفكير رشيد واع يراعي الإعتبارات الموضوعية ، أي لابد أن يستند إلى تحليل علمي للواقع يأخذ في الإعتبار القدرات والإمكانات المتاحة، والتهديدات والأخطار المحدقة، وإلا كان مجرد أمنيات حالمة تعجز عن قيادة التغيير.
النظام الإقتصادي: تعتمد الآليات والإجراءات التي تتم بها الفعاليات الإقتصادية على عناصر عديدة في المجتمع، والطريقة التي تربط هذه العناصر مع بعضها هي ما نطلق عليه النظام الإقتصادي، وهذه الطريقة لا تخضع فقط للعوامل الإقتصادية، بل تؤثر فيها أحيانا عوامل خارج ما نعده عادة "إقتصادي"، فقانون يصدر لمحاربة الفساد سيؤثر على الإقتصاد، وصراع على السلطة سيؤثر على الإقتصاد، ووجود نزعات طائفية وإنقسام مجتمعي يؤثر على الإقتصاد .. عندما نتعامل مع الفاعليات الإقتصادية كمنظومة مترابطة يجب أن نراها كمنظومة فرعية هي جزء من المنظومة الأعلى: المجتمع كله.
تتشابك هذه المداخل بسبب وحدة الموضوع، لكنها تتمايز من حيث أسلوب البحث وطرق التفكير، وللأسف تخلط أغلب الدراسات التي إطلعنا عليها حول علاقة الإسلام بالإقتصاد بين هذه المداخل، فنجد تحت عنوان "النظام الإقتصادي في الإسلام" مثلا كلاما يكاد ينحصر في الجوانب المذهبية للموضوع، والأكثر مدعاة للأسف هو أن توضع هذه الجوانب المذهبية تحت عنوان مثل "نظرية الإقتصاد الإسلامي".
إن ما يجعل نظاما ما ليبراليا أو إشتراكيا أو شيوعيا أو إسلاميا هو المذهب الذي يحكمه، وهذا هو محور كلامنا في هذه السلسلة، لكن تفعيل المذهب يحتاج إلى علم يساعدنا على إتخاذ القرارات التفصيلية، وتطبيق المذهب على الأرض يحتاج إلى نظام، وسنعرض للعلم والنظام فقط من حيث هي مدخلات تؤثر في صياغة المذهب، ومن حيث أنها مخرجات يدخل في تشكيلها المذهب الذي يقود الإقتصاد.