منذ 6 سنة | 3254 مشاهدات
بإنهيار السلطة المركزية للإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس الميلادي تراجعت مكانة المدن بصورة مزرية، فبعد أن كانت أماكن لإقامة ممثلي الإمبراطور غدت مجرد تجمعات هامشية تضم التجار والحرفيين، وإنتقل مركز الحياة السياسية والإجتماعية والإقتصادية إلى الريف، إلى قلعة السيد الإقطاعي وما حولها، وخلال القرون الخمسة التالية لنشأة الإقطاع أمكن لسكان المدن أن يحوزوا بعض القوة الإقتصادية البعيدة عن هيمنة الإقطاعيين على النشاط الزراعي، وبهذه القوة إنحازوا للملوك في صراعهم مع باقي الإقطاعيين، ومنذ القرن الحادي عشر تغير وضع الملك، من مجرد أكبر سيد بين السادة إلى سيد على كل السادة، وخضع كل النبلاء لسلطته، وفي المقابل حصل سكان المدن على إستقلالهم عن سلطة الإقطاعيين، وحيثما وجدت ملكية قوية كانت المدن تتبع الملك مباشرة، أما في المناطق التي إفتقرت لمثل هذه السلطة الملكية، إيطاليا مثلا، فقد أصبحت المدن وحدات سياسية مستقلة إستقلالا كاملا.
في القرن الخامس عشر بدأت ثلاث ظواهر في النمو، تسارع الإكتشافات العلمية، وإتساع حركة الكشوف الجغرافية، وإرتفاع أعداد سكان المدن، أدى هذا إلى زيادة كبيرة في نشاط المشروعات التجارية والصناعية الوليدة وتراكمت ثروات طائلة في المدن، لكن النظام الإقطاعي كان يعرقل نمو هذا النشاط، بالذات تقييد الإقطاعيين لحرية المرور في أراضيهم، ومنعهم الأقنان من الإلتحاق بالعمل في المشروعات التجارية والصناعية، فقادت الطبقة البورجوازية من سكان المدن ثورات، شارك فيها الفلاحين الراغبين في التخلص من السلطة الإقطاعية، وأسقطوا النظام، وأنشأوا مكانه نظاما تسيطر عليه البورجوازية، سياسيا وإقتصاديا وإجتماعيا، هو النظام الرأسمالي، وقد شرحت في "بؤس الحل الليبرالي" ص ص 8-15 بشكل أكثر تفصيلا طبيعة الصراع الذي دار بين البورجوازية والإقطاع وما تمخض عنه هذا الصراع.
يقول التحليل الماركسي أن نمو الصناعة والتوسع في الإنتاج الآلي أدى إلى الحاجة لعلاقة جديدة بين مالك وسائل الإنتاج والعاملين لحسابه، ليست علاقة ملكية شخص لاخر كما في الرق، وليست إلتزامات غير محددة وإلتصاق كامل بوسائل الإنتاج كما في الإقطاع، بل علاقة تعاقدية حرة يحدد فيها بوضوح إلتزامات الطرفين: العمل مقابل الأجر، وفيما عدا ذلك يكون العامل حرا خارج المصنع، وحرا في تغيير المصنع، وبالمقابل يكون الرأسمالي حرا في تغيير العامل إذا تغيرت إحتياجات العمل، ففي الرأسمالية حصل العامل على حريته في بيع قوة عمله، لكنه لم يستطع الحصول على حقه في كامل عائد عمله، فالأجر الذي يتحدد بناء على العرض والطلب في سوق العمل سوف يكون أقل ما يمكن دفعه (هذه قاعدة من قواعد تحدد الثمن في السوق الحرة)، بينما في الحقيقة، حسب التفكير الماركسي، لا تكون للسلعة قيمة أعلى من قيمة العمل الذي أنتجها، وبذلك يكون كل ربح يحصل عليه الرأسمالي هو بالضبط إقتطاع من حق العامل: فائض القيمة هو مجرد سرقة صريحة.
إن تحليل ماركس لطبيعة النظام الرأسمالي كان تحليلا ذكيا، وكتابه "رأس المال" يقدم ولا شك فهما صائبا لأغلب جوانبها، وعدا نظريته في فائض القيمة، التي إنتقدها عديد من أهم المفكرين الماركسيين فيما بعد، فإن الصورة التي رسمها للنظام الجديد كانت أقرب ما يكون لواقع الرأسمالية في منتصف القرن التاسع عشر، وقد أوضح، وأراه مصيبا هنا إلى حد كبير، أن الإنتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية لم يكن مجرد إستبدال طبقة مسيطرة بأخرى، ولا مجرد تغير في علاقات الملكية، من ملكية العبد نفسه إلى ملكية قوة عمله وحسب، لكنه كان تحطيما لكل العلاقات بين بني البشر عدا العلاقات التعاقدية بين أفراد أحرار مستقلين، وتحطيما لكل القيم، عدا قيمة الثروة والمال.
وأكد ماركس أن آليات النظام الرأسمالي ستؤدي حتما إلى دورات من الكساد، عندما يزيد الإنتاج عن الطلب، وهي ظاهرة لم تحدث في التاريخ من قبل، بالإضافة إلى أن النظام، بقوة كامنة فيه، يدفع العمليات الإنتاجية بعيدا عن المنافسة نحو الإحتكار، الأمر الذي سيؤدي إلى تركز ملكية وسائل الإنتاج في أيدي عدد أقل فأقل من الأفراد، والدور المزعوم للدولة الليبرالية الحارسة في الحفاظ على المنافسة الحرة هو أكذوبة مفضوحة، فالدولة عند ماركس ليست إلا أداة القمع التي تقيمها الطبقة المسيطرة لتمكنها من استغلال الجماهير، فلا يمكن أن تعمل الدولة في النظام الرأسمالي ضد مصالح البورجوازية .. وبالتدريج سيزداد تركز السلطة ورأس المال من ناحية، ويزداد بؤس الطبقة العاملة ومحنتها من ناحية أخرى، والطبقة العاملة – بسبب طبيعة التنظيم الصناعي نفسه - هي أكثر الطبقات الكادحة تكتلا وتنظيما ووعيا، وفي نفس الوقت هي الأكثر وقوعا تحت نير الإستغلال الرأسمالي، وكلما تقدمت الراسمالية وإزداد تركزها في عدد أقل من الوحدات الأكبر حجما، كلما زاد وعي العمال وتكتلهم وتنظيمهم داخل العملية الإنتاجية، وبذلك تكون الراسمالية هي التي تربي وتنضج نقيضها الذي سيثور عليها خلال إحدى أزماتها، محطما القاعدة الرأسمالية للإنتاج ومحطما معها كل البناء الفوقي لها، ليقيم القاعدة الإقتصادية المناسبة لسيطرة الطبقة العاملة، والتي ستبني عليها بناءها الفوقي الملائم لها.
الخاصية المهمة التي لم يدركها ماركس في الرأسمالية، ربما لأنه قدم تحليله في مرحلة مبكرة من عمر هذا النظام، هي أنه يتمتع بمرونة كبيرة، وقدرة على المناورة وتقديم التنازلات التي تطيل عمره وتعالج أزماته، لذلك لم تتحقق نبوءة ماركس بقرب قيام ثورة شيوعية في ألمانيا وإنجلترا، وبدلا من ذلك قامت أول ثورة في روسيا، التي كانت وقتها بلدا إقطاعيا يستعد للدخول إلى مرحلة الإنتاج الرأسمالي، وذلك بفضل جهود لينين التنظيرية والتنظيمية، وبالذات عبقريته الفذة في المناورة وإقتناص الفرص، وأصبحت الماركسية بطبعتها اللينينية هي الأكثر رواجا بين الحركات العمالية منذ وصول حزبه البلشفي إلى السلطة في أكتوبر 1917.