مرحلة الإقطاع

منذ 6 سنة | 2038 مشاهدات

وفقا للمادية التاريخية فإن النمط العبودي لعلاقات الإنتاج، الذي خلق الإمكانية لتطور القوى الإنتاجية، تحول هو ذاته بعد فترة ليصبح عائقا أمام إستمرار هذا التطور، فلم يكن للعبيد أي مصلحة، ولا قدرة، على تطوير أدوات واساليب الزراعة إلى مرحلة أعلى، فأخذت معدلات نمو الإنتاجية في التقهقر .. لقد كان إستمرار التقدم يتطلب قدرا من حرية التصرف والقدرة على المبادرة والرغية في التحسين لا تتفق مع الفقدان الكامل للحرية الذي إقترن بنظام الرق .. كان من الضروري أن يتحول العبد إلى قن، فنشأ نظام الإقطاع الأوروبي، وهو يختلف عن الإقطاع الشرقي، الذي سنتناوله في مقال تال.

          لقد عرضنا يإيجاز السمات السياسية والإقتصادية لنظام الإقطاع في كتابنا "بؤس الحل الليبرالي" ص ص 7-8، وأهم خصائصه هي إلتصاق الفلاحين بالأرض، لا يستطيعون مغادرتها أو تغيير عملهم في الزراعة، يحصلون على نسبة من الإنتاج ويذهب الباقي للسيد، لكنهم لم يكونوا عبيدا لهذا السيد، لكنهم لم يكووا أحرارا أيضا، وبإنتقال الأرض إلى سيد جديد تنتقل تبعيتهم إلى هذا الجديد .. في ظل النظام الإقطاعي إجتهد الفلاحون في رفع الإنتاجية، ونمت الحرف في المدن المستقلة، وحققت التجارة نموا كبيرا مكن التجار في ما بعد من تحدي النظام الإقطاعي ثم تحطيمه .. كان للإقطاع الفضل في أن تقطع القوى الإنتاجية شوطا أبعد في التطور.

          لم يتم تحول العبيد إلى أقنان إستجابة لنزعة إنسانية ظهرت لدى مالكي العبيد، ولا إعترافا بحق الإنسان في الحرية، ولا حتى بسبب ضيق العبيد من وضعهم وثورتهم عليه، وإنما كان إستجابة لتطورات تكنولوجية بحتة فرضها التطور في أساليب الإنتاج، صحيح أن الإمبراطوربة الرومانية، التي كانت تسند نظام العبودية، قد سقطت تحت مطارق غارات البرابرة، لكن هذا السقوط، حسب المادية التاريخية، كان ضرورة تاريخية أدى إليها الضعف الذي أصاب النظام القديم الذي نخره السوس من داخله.

          تستوقفنا هنا ملاحظة أنه لما هاجر الأوروبيون إلى أمريكا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، عندما كان النظام الإقطاعي قد نما وترعرع وآتى كل ثماره، بل وأوشك على أن ينهار ويخلي مكانه للرأسمالية، لم يعتمد ملاك الأراضي الشاسعة على الأقنان، بل جلبوا الأفارقة واستعبدوهم للعمل في الزراعة .. لم أصادف أبدا تحليلا ماركسيا يشرح لماذا لم ينظم المهاجرون الأوروبيون مزارعهم على أساس القنانة، طالما أنهم قد إكتشفوا منذ زمن أنها أكفأ من العبودية في تشغيل أساليب الإنتاج التي وصل إليها التطور التكنولوجي وقتها .. لماذا إرتد هؤلاء الناس إلى النظام القديم الذي هو أقل إنتاجية؟ .. كان من المفروض أن يثير ما حدث في أمريكا علامة إستفهام عند ماركس والماركسيين حول الأسباب الحقيقية لإنتقال أوروبا من العبودية إلى الإقطاع، لكن يبدو أنهم فضلوا تجاهل هذه النقطة، ليزيدوا من شكوكنا حول طريقة ماركس في البحث، فما هكذا يسلك العلماء.

          وقرب نهاية حياته "إكتشف" ماركس الكهل أن الأمور قد سارت في العالم القديم خارج أوروبا بطريقة مختلفة، وتكلم بإختصار عن نمط الإنتاج الآسيوي والإقطاع الشرقي، الذي يختلف بوضوح عن النمط الأوروبي، ولكن لسبب ما لم يجد في هذا "الإكتشاف" ما يدعوه لإعادة النظر في قوانين ماديته التاريخية .. في أي علم آخر، عندما يجد العلماء أن هناك ظواهر لا تخضع للعلاقات التي إفترضوا أنها قوانين فإنهم يعيدون النظر فيها، ويبحثون عن فرضيات أخرى تكون قادرة على تفسير كل الوقائع التي تمت ملاحظتها .. لكن ماركس، الذي يزعم أنصاره أن كان علميا لأقصى درجة، لم يفعل، ولم يطلب من تلاميذه وأتباعه أن يراجعوا عمله.

شارك المقال