لا تقل: الإقتصاد الإسلامي

منذ 6 سنة | 1960 مشاهدات

هذا لا يعني أننا لا نؤمن بوجود إقتصاد إسلامي، على العكس، فأنا شخصيا لدي من الأسباب الموضوعية (التي لا تعتمد في الأساس على الإيمان الغيبي) ما يجعلني أعتقد أن أحوالنا لن تنصلح إلا إذا حققناه على أرض الواقع، لكني أعترض على إستخدام "ال" التعريف عندما نتكلم عن الإقتصاد الذي نريده، وهو ليس إعتراضا شكليا بأي حال، فتعبير "الإقتصاد الإسلامي" يعطي القارئ إنطباعا بأن الحديث يدور عن شيء معين نعرفه تماما ونتفق على كل تفاصيله، لأنه الإقتصاد الذي جاء به الوحي .. هذه الفكرة، رغم أنها شائعة ويتصور الكثيرون أنها صحيحة، هي أبعد ما تكون عن الصحة .. لايوجد شيء إسمه الإقتصاد الإسلامي .. توجد نماذج عديدة للإقتصاد يمكن أن تكون كلها إسلامية، وربما تظهر مع الزمن نماذج أخرى لا تخطر ببالنا الآن وتكون هي أيضا إسلامية، فالإسلام لم يعطنا وصفة جاهزة بحيث يكفي أن نطبقها كي يظهر إلى الوجود إقتصاد معين هو الذي يريد منا الحق سبحانه وتعالى أن ندبر أمورنا من خلاله، لكنه أعطانا توجيهات بالأهداف التي ينبغي أن نسعى إليها، وقيدنا بقيود لا ينبغي أن نتفلت منها، وتركنا أحرارا في جوانب أخرى نختار لأنفسنا فيها ما نشاء، وكل شعب، عندما يستخدم موارده، بالطريقة التي يختارها، ليواجه التحديات التي تتهدده، سينتج توليفته الخاصة، التي إذا إحترمت القيود وسارت بإتجاه الأهداف ستكون إسلامية بإذن الله، مهما كانت إختيارات هذا الشعب من "المباحات".

          لذلك لا يتوقع منا القارئ أن نقدم في هذه السلسلة وصفا لنظام معين نريد تحقيقه، ولا خطة محددة توصلنا إليه، ففي رأينا أن من يسلك هذا السبيل لا يفهم في الإقتصاد ولا يعرف المعطيات الإسلامية في هذا المجال .. ما الذي سنقدمه للقارئ إذن؟

          لا يمكن لأي حزب أو حركة أو جماعة أن تبني إقتصادا "على مزاجها"، ثم تلزم به شعبها، مهما إمتلكت من أدوات السلطة .. هل يمكن أن نتصور سلطة على الإقتصاد أكبر من تلك التي إمتلكتها الإحزاب الشيوعية التي حكمت دول أوروبا الشرقية حتى إنهيار سور برلين؟ .. حزب واحد يحتكر السلطة السياسية في دولة تمتلك أو تهيمن على كل وسائل الإنتاج، ومع ذلك لم يستطع أي حزب في أي دولة منهم أن يخرج إلى النور النظام الإقتصادي الذي زعم أنه يناضل من أجل تحقيقه، فما بالك بسلطة إسلامية عليها أن تحترم الملكية الخاصة والمبادرات الفردية، ولا يعطيعا الأساس العقيدي الذي ترتكز عليه تلك الصلاحيات الواسعة (المطلقة تقريبا) التي امتلكتها الأحزاب الشيوعية على الفاعليات الإقتصادية.

          ما سنسعى بإذن الله لإنجازه في هذه السلسلة هو أن نسير قدر إمكاننا على المحاور التالية:

          1 – إستكشاف الطريقة التي يتبلور بها النظام الإقتصادي – أي نظام إقتصادي - نتيجة تفاعل المرجعية الثقافية للشعب مع الإختيارات السياسية للنخب ومع شبكة العلاقات الإجتماعية التي تشكلت عبر القرون، وإحتمالات التأثير على هذه العملية في لحظة تاريخية معينة.

          2 – بيان بعض الأخطاء الشائعة في الفكر الإسلامي المعاصر بشأن المطلوب من المسلمين لبناء مجتمع إسلامي قوي إقتصاديا، وهي شائعة جدا لدرجة أن عددا لا بأس به من أهم قيادات العمل الإسلامي يتصور أنها حقائق لا شك فيها.

          3 – إستعراض أهم مقاصد الشريعة الإسلامية التي تمارس تأثيرا على الفاعليات الإقتصادية، ونوع التأثير الذي يمكن أن تمارسه في تشكيل الإقتصاد إذا أصبح تحقيق هذه المقاصد هو الغاية العليا للمجتمع.

          4 – أهم القيود التي تضعها الشريعة الإسلامية على الفاعليات الإقتصادية، وإستكشاف أثر هذه القيود على عمليات الإنتاج والتبادل والإستهلاك.

          5 – إستشراف السيناريوهات الممكنة والبدائل المحتملة لبناء نظام إقتصادي إسلامي في مصر.

          أرجو ألا يأمل القارئ في أن يجد في النهاية صورة لنظام إقتصادي متكامل، هذه مهمة محفوفة بالمخاطر، فالإقتصاد كالكائن الحي، وربما كان أشد تعقيدا، والكائن الحي يأخذ صفاته من جينات يحصل عليها من الأب، وأخرى يحصل عليها من الأم، ولا يمكنك أن تحدد خريطته الجينية من مجرد معرفتك بالأب والأم، لن تعرفها إلا بعد أن يتكون الجنين بالفعل، فنفس الأب والأم ينجبان عددا من الأبناء لكل منهم خريطته المختلفة، وخصائص الإنسان الذي ستتعامل معه عندما يصل إلى سن النضج لن تكون هي بالضبط تلك التي يمكن التنبؤ بها من خرطته الجينية، ستكون محصلة تفاعل هذه الخريطة مع البيئة ومع الخبرات التي مر بها الإنسان خلال سنوات عمره .. كذلك الإقتصاد .. يمكنك وضع عدد من الإحتمالات، مجرد إحتمالات، بإستقراء ما تعرفه من عناصر الخصوصية الثقافية (والتي تقابل الخريطة الجينية في المثال الذي ضربناه)، لكنك لن تستطيع التنبؤ بصورة محددة للنظام الإقتصادي الذي يمكن أن نجده في مصر بعد أن تنهض إذا قرر الشعب المصري أن تكون نهضته على أسس إسلامية .. وأنا على أي حال لا أكتب كي أتنبأ بصورة للمستقبل، فهذه مهمة كتاب روايات الخيال العلمي، لكني أكتب لأني آمل في أن يفيد كلامي في تحديد أولويات العمل في اللحظة الراهنة، فإن حققت بعضا مما آمل فيه فلله الفضل والمنة، أما إذا وجد القارئ أن ما سأدونه لن يكون أكثر من إلقاء حجر في الماء الراكد، وتذكير للمسلمين ببعض واجباتهم المهدرة، دون أن يرشدهم إلى خطوات عملية، فإني أذكره بأن تعريف المشكلة هو نصف الحل، وتحديد الإتجاه قبل السفر هو شرط لنجاح الرحلة، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

شارك المقال