منذ 6 سنة | 3506 مشاهدات
في مجال العلوم الإنسانية (كالإجتماع والإقتصاد والسياسة وغيرها) لا يعطي الباحثون أهمية تذكر للشعائر والعبادات، وإنما الدين عندهم - وهذا هو جوهر كل دين فعلا – هو مجمل التصورات التي تتعلق بطبيعة الوجود والقوى التي تحركه وعلاقتها بالإنسان، وما تفرزه هذه التصورات من قيم تحكم علاقات الناس، وما ينتج عنها من سلوكيات تؤثر تأثيرا كبيرا في العلاقات الإجتماعية، وما دام ماركس يرى أن الأفكار ليست إلا إنعكاسا للواقع المادي في الدماغ فإن الدين عنده، شأن كل مافي عقل الإنسان، هو مجرد مجموعة من الأفكار نتجت عن تأثير الواقع المادي عليه، وهذا الواقع يتلخص في نمط إنتاج الإحتياجات المادية اللازمة للحفاظ على الحياة .. ولنستعرض أولا التفسير الماركسي لظهور الإديان وإندثارها والدور الذي تلعبه أثناء حياتها.
في ظل أي نمط إنتاج معين تتناغم كل أجزاء البناء الفوقي (النظام السياسي والقانون والدين والفنون والاداب .. إلخ) مع القاعدة الإقتصادية وعلاقات الإنتاج السائدة وتقدم التبرير لإستمرارها، وعندما تتطور وسائل الإنتاج إلى أقصى ما تسمح به العلاقات القائمة تصبح هذه العلاقات نفسها حجر عثرة في سبيل إستمرار التقدم، ويصل الصراع بين القوى المسيطرة (المالكة لوسائل الإنتاج) والطبقات الكادحة إلى ذروته، وتتهيأ الظروف لقيام ثورة تقضي على العلاقات القديمة لتنشيء نوعا جديدا من العلاقات يكون أكثر ملائمة للمستوى الجديد الذي وصلته وسائل الإنتاج ويسمح بإستمرار تقدم المجتمع، حينئذ يكون على قادة الثورة ضرب كل التصورات التي تستند إليها سيطرة الطبقة الحاكمة، وتعمل الضرورات الموضوعية للتغير على إنبثاق أفكار في عقول الناس تعكس طبيعة الثورة المنشودة، فتظهر فلسفة جديدة للحكم، وأساليب جديدة للتعبير الفني، ونظرة جديدة للوجود والقوى التي تحركه، وتكون هذه الأفكار الجديدة تبريرا للثورة وتبشيرا بنوع جديد من العلاقات الإنتاجية يسلب الطبقة الحاكمة حقها في السيطرة ويعطيه للقوى التي تقود الطبقات الكادحة، الراغبة والقادرة على التغيير .. هكذا يظهر للوجود دين جديد، ليس لأن الآلهة أوحت إلى بعض الأنبياء، فالمادية لا تؤمن إلا بقوانين الطبيعة، ولكن لأن الواقع المادي الجديد إنعكس في عقول قادة الثورة على هيئة أفكار تعطيهم الحق في القيام بما يرغبون في القيام به، ولأن الجماهير – عندما تنضج الظروف للثورة – تكون هي أيضا راغبة في هذا التغيير، ومستعدة للسير خلف دعاته، فإنها تتقبل الدين الجديد على نطاق واسع، أما القوى المسيطرة فتظل متمسكة بالدين الذي يبرر سلطتها، وتحاول إستخدامه لقمع الثوار، وعندما تنجح القوى الثائرة في إسقاط نظام العلاقات القديمة يسقط معها الدين القديم، ويتم إعادة تنظيم كل جوانب المجتمع وفقا لنظام سياسي وقانوني وديني جديد، وبذلك يظهر للوجود بناء فوقي مختلف يناسب القاعدة الإقتصادية الجديدة.
خلال الثورة والفترات الأولى بعد إنتصارها، أثناء بناء المجتمع الجديد وإرساء دعائمه، يلعب الدين الجديد دورا ثوريا تقدميا، فهو يقدم قيما جديدة تدعم بناء العلاقات الجديدة وتساعد على تغيير السلوكيات الإنسانية في الإتجاه الداعم لمرحلة أعلى من تطور البشرية، ولكن مع مرور الزمن، وإستمرار تطور وسائل الإنتاج، تغدو العلاقات الإنتاحية التي كانت مساعدة على التقدم معرقلة لإستمراره، عندئذ يصبح الدين الذي كان ثوريا وتقدميا مجرد دين رجعي يعمل على تثبيت علاقات إستنفذت أغراضها، وتتكرر عمليات الصراع والثورة وإسقاط النظام والحاجة لفلسفة سياسية جديدة وقانون جديد .. ودين جديد .. وستستمر هذه العملية، حسب رأي ماركس، إلى أن يحقق الإنسان لنفسه نظاما يختفي فيه الظلم والإستغلال، فالناس الأحرار المتساوون الذين يتمتعون جميعا بنتائج عملهم لن يكونوا في حاجة إلى أية أوهام تعزيهم عن الظلم وتعدهم بالنعيم في عالم آخر.
يغدو من العسير الكلام عن إحتمالات للتصالح بين الفلسفة الماركسية والإسلام على المستوى الإعتقادي أو الفلسفي، فنحن لا نتصور عقلا سويا يمكنه أن يحتفظ بعقائد الإسلام عن الخلق والإستخلاف والإبتلاء والمشيئة الإلهية التي يخضع لها الوجود ووجوب تنظيم المجتمع بالإرتكاز على النصوص الإلهية التي تحمل أفكارا خالدة لا تتبدل ولا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وفي نفس الوقت يضع إلى جوارها المادية التاريخية التي تعلمه أن الإنسان كائن مادي لا تحركه إلا غرائزه وإحتياجاته البيولوجية ولا يمكن أن تأتيه أية أفكار من عالم الغيب لتقود خطواته في هذا العالم .. لكن السؤال عن إحتمالات التفاهم والتعاون بين الحركات الإسلامية والحركات الماركسية في مواجهة أعداء الأمة سيظل مفتوحا، وإن كنا سنؤجل الخوض فيه حتى ننتهي أولا من عرض أهم المبادئ الماركسية والبرنامج الذي تقترحه للتغيير، لنفحص بعدها الشروط التي يجب توافرها حتى يمكن التحالف بين حركات تنظر للمستقبل بعيون ماركسية وأخرى تؤمن بالإسلام كرسالة سماوية ومنهج للحياة على الأرض.