قوانين ماركس العلمية

منذ 6 سنة | 1865 مشاهدات

القانون العلمي هو العلاقة الثابتة المطردة التي تربط بين عدة متغيرات، ولكي يثبت الباحث أن العلاقات التي يفترضها هي فعلا القوانين التي تحكم الظاهرة التي يبحثها فإن عليه أن يجري عدة تجارب في ظروف مختلفة، ويرصد النتائج، ويثبت أنها تخضع دائما للعلاقات التي يقترحها، فما هي التجارب التي يمكن إجراءها لإعطاء المصداقية لنظرية تزعم أنها إكتشفت قوانين حركة المجتمعات؟ .. لا يمكنك أن تضع مجتمعا في قارورة ثم تعرضه لظروف مختلفة لتعرف ما إذا كان سيسلك بالطريقة التي تقترحها النظرية أم لا، الطريقة الوحيدة الممكنة هي أن تراجع الأحداث التي جرت في مجتمعات مختلفة في ظروف مختلفة وتثبت أنها كانت تسلك دائما بالطريقة التي تصفها نظريتك، وهذا هو ما حاول ماركس القيام به: تفسير التاريخ بطريقة تبرهن على أن التغيرات التي حدثت في كل المجتمعات كانت تتم وفقا لما تقول به "المادية التاريخية"، وظن أنه بهذا يكون قد أكسب نظريته مصداقية عالية تعطية الحق في التنبؤ بمستقبل النظام الإجتماعي للمجتمعات المعاصرة، بالضبط كما تجمع أرصاد سابقة لجسم متحرك، ثم تطبق عليها قانون نيوتن للحركة لتبرهن على أنه كان يسير طبقا لهذا القانون في الماضي، ومن ثم يمكنك إستخدام العلاقة ذاتها لحساب مساره في المستقبل والتنبؤ بالمكان الذي سيصل إليه في أية لحظة قادمة.

لقد كان ماركس مفكرا ذكيا حقا، له بعض النظرات الثاقبة والتحليلات المفيدة، لكنه وقع أيضا في أخطاء فاحشة لا يقع فيها الباحث المبتدئ، وأول هذه الأخطاء الفاحشة كانت في إختياره لعينة البحث.

في بداية مشوار الدراسات العليا يتعلم الباحث مناهج البحث العلمي، ومن أول ما يبتعلمة أسلوب إختيار عينة البحث، ويتم حينها تحذيره من الوقوع في عدد من الأخطاء التي ستؤدي حتما للوصول إلى نتائج لا يصح الإعتماد عليها ولا يمكن الثقة في أنها تصف فعلا ما يحدث لموضوع البحث، من أهمها ألا يقتصر على عدد قليل من الحالات، فقد تكون لها خصوصيات معينة بحيث لا يمكن تعميم ملاحظاتنا منها على كل الحالات، وأن يكون محايدا في إختياره، فلا يتعمد أن يدرج العينات التي تؤيد وجهة نظره ويتجاهل العينات التي تتصرف بطريقة تختلف عن الفرضية التي يحاول إثباتها، وقد وقع ماركس في كلا الخطأين (مع عدد آخر من الأخطاء المهمة، لكنها ليست في منهج البحث وإنما في فرضياته الأساسية)، فقد اقتصر في دراسته على تاريخ أوروبا، مفترضا، دون أي سند طبعا، أن ما حدث فيها هو نفسه ما كان يحدث في كل مكان في العالم.

خذ مثلا خطأه المنهجي عندما أراد أن يضع قانونا ليفسر دور الدين في بناء العلاقات الإجتماعية، ونحن لا نعرف بالضبط ما الذي دفعه لارتكاب هذا الخطأ، هل افترض فعلا أن الدين في أوروبا هو الدين في كل مكان، أم أنه كان يعرف أن هناك أديان أخرى في مناطق أخرى من العالم لعبت أدوارا مختلفة لكنه آثر تجاهلها لأنها كانت تؤثر على مجتمعاتها بشكل مختلف يتعارض مع نظريته، المهم أنه عندما اقتصر على تحليل دور الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا العصور الوسطى وصل إلى نتائج غير صحيحة، ينتقدها ماركسيون ملتزمون، من أبناء العالم الثالث ومن غيره، وقد سبق أن عرضنا ملاحظات الدكتور فؤاد زكريا وما نقله عن جاك بيرك وتعليقه على دور الإسلام في الثورة الجزائرية.

نشأت الكنيسة الكاثوليكية منذ البداية في حضن السلطة الإمبراطورية الرومانية ورعايتها، ولو مد ماركس بصره قليلا إلى منطقتنا لوجد أن كنيستنا القبطية الأرثوذوكسية، عندما كانت المسيحية هي الديانة الشعبية الأولى قبل دخول الإسلام، كانت تمثل الشعب المقهور في مواجهة سلطة إستعمارية، ولعبت بذلك دورا مختلفا عما لعبته الكنيسة في أوروبا .. ونظرا لجهل ماركس بهذا المثال لم يخطر بباله أن كنائس مسيحية يمكنها أن تنحاز للجماهير في صراعها مع الهيمنة الخارجية والإستبداد المحلي، فلم يكن في نظريته مكان لتفسير ما أطلق عليه "لاهوت التحرير" في أمريكا اللاتينية، كما أن ماركس لم يحاول إستكشاف الفرق بين دين تقوده مؤسسة كهنوتية تزعم أنها وحدها التي تعبر عن إرادة الإله، وبين دين يخلو من هذه المؤسسة ويمتلكه كل معتنقيه، كما هي حال الإسلام والكونفوشيوسية مثلا، فعندما لا تكون هناك مؤسسة تحتكر الكلام بإسم الإله يختلف وضع الدين إختلافا جذريا، صحيح أن بعض الفقهاء عندنا قد باعوا أنفسهم، قديما وحديثا، للسلاطين، وحاولوا دعم سلطتهم بإسم الإسلام، لكن هذا لم يمنع من أن يكون هناك على الدوام، قديما وحديثا، أئمة أعلام إنحازوا للجماهير ودافعوا عنها وحازوا ثقتها، حاربوا القهر والطغيان بإسم الإسلام أيضا.

ومن نتيجة إقتصار ماركس على التاريخ الأوروبي أنه اعتبر أن التزامن بين صعود الرأسمالية في مواجهة الإقطاع مع ظهور البروتستانتية في مواجهة الكاثوليكية لا يعني إلا أن الكاثوليكية كانت إفرازا للنظام الملكي الإقطاعي وأن البروتستانتية هي دين البورجوازية الرأسمالية، دون أن يحاول دراسة إحتمال أن يكون الفكر المسيحي قد تأثر بالإسلام خلال فترة الحروب الصليبية، وأن تكون رغبة بعض المتدينين المسيحيين في تلقي دينهم من كتابهم دون وساطة الكهنة، ونفورهم من سلطة مؤسستهم الدينية، قد نتج عما وجدوه لدى المسلمين، ولو فعل فلربما كان حينها سيجد دينا آخر ظهر ليعالج مشاكل مجتمع بدوي قبلي، ثم تمكن من قيادة هذا المجتمع عندما صار تجاريا زراعيا، بل ومكنه من أن يكون القطب الأعظم في العالم، ومازال قادرا على قيادة مجتمع صناعي حديث .. أو لعله عرف كل هذا لكنه فضل أن يتجاهله لأنه ينسف مقولته المادية التاريخية عن حكاية إرتباط الدين بالقاعدة الإقتصادية وتغيره بتغيرها.

خطأ ماركس في فهم دور الدين في المجتمع لم يكن هو الخطأ الوحيد الناتج عن الخلل المنهجي في فلسفته، لكن من المفيد أن نعرض أولا الخطوط العريضة لتطور المجتمعات كما تراه المادية التاريخية، حتى نتمكن من مناقشة عدد آخر من الأخطاء الماركسية، في المنهجية وفي التحليل.

شارك المقال