هل هو حقا أفيون الشعوب؟

منذ 6 سنة | 2898 مشاهدات

وردت تلك العبارة الشهيرة في نص لماركس يقول فيه: " أن العذاب الديني تعبير عن العذاب الفعلي، وهو في الوقت ذاته احتجاج على هذا العذاب الفعلي، فالدين هو زفرة المخلوق المضطهد، وهو بمثابة القلب فى عالم بلا قلب، والروح في أوضاع خلت من الروح، إنه أفيون الشعب."، فالدين – كما  هو واضح في النص – يعد في نظر ماركس أفيون ينقل البشر من عالم الواقع إلى عالم الوهم ليقدم لهم العزاء عن الظروف غير الإنسانية التي يعيشون فيها، وليس هذا فقط، لكنه واحد من أهم الأدوات التي تستخدمها الطبقة المسيطرة لتقنع الجماهير بالاستكانة لهذه الأوضاع الفاسدة باعتبارها مشيئة الله التي لا يجوز الخروج عليها .. هذه فكرة لا يجب الخلط بينها وبين ما يحدث الآن في العالم الإسلامي، فنحن نلحظ المحاولات المضنية التي يقوم بها فقهاء السلاطين لإقناع المسلمين بأن معارضة الحكام حرام، وأن طاعتهم واجبة بحكم الشرع، ونحن نصر على أنهم في ذلك إنما يدلسون وينتزعون النصوص من سياقها، بل ويكذبون على الله ورسوله ويتقولون على الإسلام ما ليس منه .. لكن ما يقوله ماركس شيء آخر .. إنه يرى أن الدين – أي دين، بطبيعته من حيث علاقته بالإله أو الآلهة - لا دور له إلا تخدير الجماهير وإستغفالها لصالح الحكام.

          كانت كل الأحزاب الشيوعية في منطقتنا تعلن تبنيها الكامل لموقف ماركس من الدين، وتصف الحركات الإسلامية كلها بالرجعية والوقوف في صف أعداء الشعوب، لكن العدين من الماركسيين العرب بدأوا منذ عقود قليلة في محاولة تليين هذا الموقف.

          ولنأخذ مثلا الدكتور فؤاد زكريا، وهو مفكر ماركسي محترم، في محاولته للتقريب بين الماركسيين والإسلاميين في كتابه "الصحوة الإسلامية في ميزان العقل" .. يقول: "هل من الممكن أن نعمم رأى ماركس عن الدين، أم أن هذا الرأي ينطبق على الدين فى مجتمع معين وعصر معين؟ إن تجربة ماركس مع الدين هي فى أساسها تجربة مثقف غربي ينتمي إلى تراث يجمع بين اليهودية والمسيحية وبحكم الازدواج بين أسرته اليهودية والمجتمع المسيحي الذى عاش وسطه" ص191 .. "أن هناك تجربة أخرى لم يكن من الممكن أن يعرفها ماركس، لأنها تنتمي إلى تراث حضاري لم يعرفه معرفة كافية، فضلا عن أن معالمها لم تتحدد إلا فى بلاد العالم الثالث .. وقد تنبه المستشرق الفرنسي جاك بيرك إلى الدور الكبير الذى لعبه الدين الإسلامي فى الثورة الجزائرية إن الدين فى هذه المنطقة من العالم لم يكن على الإطلاق عاملا مخدرا للشعوب، بل كان على العكس من ذلك سلاحا عظيم الفاعلية" ص195 ..

ويستغرب الدكتور زكريا من إنهماك المتدينين في الطعن في ماركس بالذات بينما يتسامحون مع إلحاد عدد كبير من المفكرين، فيقول: …" لقد كان كثير من المفكرين يهاجمون الدين فى ذاته، ولكن مهاجمتهم للدين كانت فى واقع الأمر انعكاسا مباشرا لموقفهم من النموذج الوحيد الذى عاشوا فى ظله وهكذا يتضح للقارئ أن هناك خطأ أساسيا فى كل الكتابات السوقية الشائعة التى تصور موقف ماركس بأنه ظاهرة فريدة فى تهجمه على الأديان ومع ذلك فإن هذه الكتابات غير العلمية تكيل المديح لمفكرين آخرين مثل برتراند رسل أو هيدجر أو سارتر، دون أن تشير إلى أن موقفهم من الدين لا يقل عداء عن موقف ماركس وأتباعه، مما يثبت أن الهجوم على ماركس بسبب الدين إنما هو تغطية سطحية لأسباب أقوى وأعمق"  ص193.. والمتدينون كرهوا ماركس فعلا بسبب موقفه من الدين، وكثيرين لم يكونوا متدينين استغلوا الدين لمحاربة الماركسية التي يعارضونها لأسباب أخرى، لكن يمكننا أن نتفهم لماذا كانت حملة المتدينين على ماركس أكبر من حملتهم على غيره من مروجي الإلحاد، فأفكار ماركس كانت النظرية التي تبنتها حركات سياسية عقائدية نشطة متحمسة وذات فعالية كبيرة يخشى من انتصارها على التدين، لأنها كانت ترى من واجبها العمل على علاج مدمني هذا الأفيون وإنقاذهم من أنفسهم، ولو بالقوة، ليمكنوهم من أن يعيشوا حياة محترمة، وليست كذلك الأفكار الفلسفية الأخرى، فهي وإن تبنت الإلحاد وأنكرت ما وراء الطبيعة، إلا إنها لم تحاول استخدام السلطة لإنقاذ الجماهير من الإدمان الغيبي.

المهم هو أن الإقتباسات التي عرضناها تريد أن توحي للقارئ بأن رأي ماركس في الدين كان متأثرا بموقف الكنيسة الكاثوليكية من كفاح الشعوب الأوروبية في مواجهة طغيان ملوك الحق الإلهي، وربما خلق ذلك إنطباعا بأن الموقف من الإسلام قد يختلف، وبالفعل ينهي الدكتور زكريا إستعراضه لوضع الدين في الماركسية بسؤال: "هل كان ماركس سيعالج دور الدين بتلك الطريقة المبسطة لو كانت قد أتيحت له فرصة معايشة هذا الوضع البالغ التعقيد للدين فى مجتمعات العالم الثالث المعاصر؟" ص197.

حسنا .. لو أن نظرة ماركس السلبية للدين كانت فعلا تعميما خاطئا لدور الكاثوليكية وأوروبا عل كل الأديان فربما كان في استطاعة ماركسيينا أن يجدوا طريقة ما للتصالح مع الإسلام، لكن ماذا لو كان رفض الدين مغروسا في بنية الفكر الماركسي إلى درجة أعمق من ذلك بكثير؟  .. سنفحص هذه القضية في المقال القادم.

شارك المقال