منذ 7 سنة | 3255 مشاهدات
يجدر بنا أن نذكر أولا وجهة نظر الغزالي في أنك إذا اكتفيت بالبحث في قضية ثبوت المعجزة للنبي، حتى إذا تأكدت من وقوعها وقام عندك الدليل على إنه نبي صادق ينقل فعلا عن الله تعالى، فقبلت كل ما جاءك منه دون حاجة لإقامة دليل خاص على صحة كل جزئية مما جاء به، فإنك في الحقيقة إنما تسلك سبيلا عقليا صحيحا مستقيما، وأنك إذا أعرضت عن المناقشات العقلية والفلسفية واكتفيت بتدبر القرآن فهمه، فستجد فيه ما يقنع عقلك ويشبع وجدانك ويرضي ذوقك الأدبي .. أما كتابه "القسطاس" فقد ألفه لبيان الأدلة العقلية في القرآن.
ويشرح الغزالي في كتابه "تهافت الفلاسفة" السبب الذي دعاه للخوض في تفنيد هذه المسائل الفلسفية .. وهو ما رآه من "إنصراف طائفة من النظار [أي أصحاب النظر العقلي] عن وظائف الإسلام [تكاليفه وفرائضه]، وإعراضهم عن الدين جملة، مقلدين في ذلك شرذمة يسيرة من ذوي العقول المنكوسة والآراء المعكوسة، ممن هالهم سماع أسماء ضخمة كسقراط وبقراط وأفلاطون وأرسطو، فتصنعوا الكفر كي يتميزوا عن سواء الناس الغالب، ظنا منهم أن الكفر من إمارات الفطنة والعلم" (هل لاحظ القارئ أنه لا جديد تحت الشمس؟ .. يبدو أن الإلحاد هو فتنة المثقفين في كل عصر).
وقد فند الغزالي مقولات الفلاسفة التي وجد أنها تخالف ما جاء به الوحي في مواضيع عديدة، مثل قولهم بعدم علم الله بالجزئيات، وأن النفوس يستحيل عليها العدم بعد وجودها، وأن الملائكة المقربين هي العقول المجردة التي هي جواهر قائمة بذاتها، وإنكارهم لبعث الأجساد ورد الأرواح إليها يوم القيامة .. الخ، وقد استخدم في كل ذلك حججا عقلية صرف، ولم يحتج عليهم أبدا بالنص الإلهي، ففي رده مثلا على فكرة أن الله لم يصدر عنه إلا العقل الأول فقط لأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد يقول: "يلزم من قولكم ألا يكون هناك شيء واحد مركب من أفراد، بل تكون الموجودات كلها آحاد، فكيف إذن وجدت هذه المركبات التي نراها في العالم؟ أمن علة واحدة؟ فيبطل قولكم لا يصدر عن الواحد إلا واحد .. أو من علة مركبة؟ فيتوجه السؤال نفسه عن تركيب هذه العلة [أي: من أين جاءت العلة المركبة.. لابد أن نصل إذا رجعنا إلى الوراء في سلسلة الأسباب إلى شيء مركب صدر عن واحد – ع]"، ويقول في قولهم أن المبدأ الأول ـ الله ـ لم يفض عنه إلا العقل الأول، وبتعقل العقل الأول لعلته صدر عنه عقل ثان وثالث وأفلاك ونفوس .. الخ، يقول: "ما ذكرتموه تحكمات .. لو حكاه إنسان عن منام رآه لاستدل به على سوء مزاجه، وعلى رأيكم يكون المعلول أشرف من العلة، من حيث أن العلة ما فاض عنها إلا واحد وقد فاض عن هذا ثلاث: عقل ونفس وفلك، ومن حيث أن الأول ما عقل إلا نفسه، والثاني عقل نفسه، ونفس المبدأ ونفس المعلولات .. ومن قنع أن يكون قوله في الله تعالى راجعا إلى هذه الرتبة فقد جعله أحقر من موجود يعقل نفسه ويعقل غيره"، وهي كما ترى مناقشات عقلية لا أثر فيها للإحتجاج بالنصوص، (لعل القارئ مازال يذكر إصرار الدكتور فؤاد زكريا على أن العلماء [رجال الدين كما يسميهم] لا يستطيعون السير في البراهين العقلية حتى النهاية، وأنهم دائما ما يصلون إلى نقطة يضطرون فيها إلى اللجوء إلى سلطة النص، وإصرارنا في المقابل على أن هذه الفكرة لا يمكن أن يكون قد وصل إليها من دراسة فكر المسلمين).
ونحن نعطي أهمية خاصة لكلام الغزالي في دحض مقولتهم المتعلقة بقدم العالم وأزليته، وسيوافقنا القارئ على هذه الأهمية إذا كان يعلم أن العلم الحديث لم يعد يقبل فكرة أزلية العالم، وسنرى كم كانت مفاهيم الغزالي عن الوجود والحركة والزمان والمكان ثاقبة وعميقة، حتى أنها ما تزال ملائمة لأحدث مفاهيمنا عن المادة والوجود، وهذا موضوع يستحق أن نفرض له مقالا خاصا.