منذ 7 سنة | 3504 مشاهدات
عاش أبو حامد الغزالي رحمه الله في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، وتوفي عام 505، وهو صاحب كتاب "إحياء علوم الدين"، الذي يعد الأشهر في مجال الأخلاق وتزكية النفس، واشتهر بلقب "حجة الإسلام"، فهو من العلماء المعدودين في تاريخ الفكر الإسلامي، وإذا كان الناس قد اختلفوا فيه بين مغال في الانتصار له ومبالغ في الهجوم عليه فهذا هو شأن الأفذاذ في كل الثقافات، ومع أنه اشتهر أيضا بلقب "هادم الفلسفة" فإنه في الواقع لم يهاجم الفلسفة نفسها أبدا، وإنما انصب هجومه على المقولات التي كان يروج لها فلاسفة المسلمين وتتعارض مع العقائد التي تعلمناها من الوحي، كما عرضنا أهمها في مقالات سابقة.
مر الغزالي في منتصف حياته العلمية، وهو في أوج شهرته ومكانته بين العلماء، بمرحلة من الشك العميق، عانى فيها معاناة شديدة أسلمته إلى حالة مرضية أفقدته القدرة على التعبير عن أفكاره، وقد اتجه إلى الفلسفة، يدرسها لعله يجد فيها طريقا لمعرفة الحقيقة، ويروي في بعض مؤلفاته أنه انصرف بكليته لمدة ثلاث سنوات كاملة إلى قراءة كتب الفلاسفة ليتعرف إلى مقولاتهم ومناهجهم في التفكير، وانتهى إلى رفض المقولات ونقدها نقدا شديدا، لكنه أعجب بالمنهج واحترمه غاية الاحترام، حتى أن هجومه على فلاسفة عصره كان هجوما فلسفيا قحا.
لقد افتتن الغزالي بمنطق أرسطو، فإلتزمه في فكره، و رأى أن دراسته فرضا كفائيا على المسلمين، ينبغي أن يوجد بينهم على الدوام العالم المتمكن منه وإلا باءت الأمة كلها بالإثم، ففي مقدمة كتابه "المستصفى في علم الأصول" وهو من الأعمدة في هذا العلم، يقول:"نذكر في هذه المقدمة مدارك العقول، وانحصارها في الحد والبرهان [الحد والبرهان هما الأدوات الرئيسية في منطق أرسطو - ع] [..] وليست هذه المقدمة من جملة علم الأصول ولا من مقدماته الخاصة به، بل هي مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط بها فلا ثقة بعلومه أصلا"، ويقول في كتابه "القسطاس" عن قوانين المنطق: "لا أدعي أني أزن بها المعارف الدينية فقط، بل أزن بها العلوم الحسابية والهندسية والطبيعية والفقهية والكلامية، وكل علم حقيقي غير وضعي"، وقد درس الغزالي المنطق، وقام بتدريسه، واستخدمه في مواجهة الفلاسفة، لا ليدحض طرقهم في البحث، ولكن ليدحض النتائج التي وصل إليها فلاسفة اليونان ومن تابعهم، فكتابات الغزالي في هذا الصدد كانت في الواقع مجموعة من المباحث الفلسفية.
ونتيجة لجهود الغزالي دخل المنطق الأرسطي في نسيج علم أصول الفقه، وأصبح واحدا من أدوات الفقهاء في إستنباط الأحكام الشرعية، وحتى الآن مازال المنطق أحد المقررات الدراسية في الأزهر الشريف .. هل ترى كيف أخطأ الدكتور فؤاد زكريا خطأ جسيما لا يليق بعالم مثله عندما نسب مقولة ابن الصلاح "من تمنطق فقد تزندق" إلى كل علماء المسلمين.
بدأ الغزالي بكتاب عن "مقاصد الفلاسفة" يعرض فيه مقولاتهم بأسلوب سلس بسيط بعيد عن التعقيد والغموض الذي يسود الكتابات الفلسفية، ليفهمها المسلم العادي بسهولة، وقد اعترض على هذه المحاولة بعض الفقهاء والفلاسفة في آن معا (على رأسهم ابن رشد)، على أساس أن العوام غير مؤهلين لمثل هذا النوع من البحوث، لكن الغزالي كان يرى – بحق – أن تقعر الفلاسفة في كلامهم هو الذي يعطيهم مكانة علمية عند العوام، وقد يقود ذلك بعضهم لإفتراض أن هؤلاء "الحكماء" ربما يكونون على صواب في معارضتهم لما جاء به الوحي، والطريقة المثلى لإنزال هؤلاء المتفلسفة من فوق عروشهم الفكرية هي أن نشرح كلامهم للعامة حتى يمكن لنا أن نعرض لهم – فيما بعد – البراهين على أن هذا الكلام ليس إلا لغوا فارغا لا أساس له من العقل أو المنطق، وهو الأمر الذي قام به فعلا أبو حامد الغزالي في كتابه "تهافت الفلاسفة، الذي سنعرض له في المقالين التاليين.