منذ 6 سنة | 3257 مشاهدات
وجد الغزالي أن كل الفلاسفة، اليونان والمسلمين, يقولون بأن العالم موجود مع الله منذ الأزل، وأن تقدم الله على العالم هو بالذات والرتبة لا بالزمان، ويشرح أدلتهم على هذا الرأي التي نوجزها في ثلاث:
الأول: إن الله موجود منذ الأزل، وإذا لم يكن يريد خلق العالم منذ البداية فما هو الطارئ الذي استجد بعدها بفترة فدعاه إلى تغيير إرادته وترجيح الخلق على عدم الخلق؟ .. لم يكن مع الله شيء قبل الخلق يمكنه أن ينشيء هذا المرجح، فلابد إذن أنه كان مريدا لخلق العالم منذ الأزل، ولا شيء يمكنه أن يحول بينه وبين تحقيق إرادته، وينتج عن ذلك أن العالم لابد أن يكون موجودا منذ الأزل.
الثاني: إذا لم يكن العالم أزليا فلابد أن يكون قد حدث بعد مدة من الزمن إنتظرها الخالق قبل أن يبدأ عملية الخلق (يسمونها مدة الترك)، وهذه المدة إن كانت متناهية، أي كانت قدرا محددا من الزمن، فمعنى هذا أن وجود الخالق نفسه له بداية تسبق لحظة الخلق بهذا القدر نفسه، ولا يكون الله أزليا لا بداية لوجوده، أما إذا قلنا أن مدة الترك لا متناهية (حتى نتوافق مع فكرة أن وجود الله ليس له بداية)، فمعنى ذلك أن العالم لا يكون قد حدث حتى الآن، لأن اللامتناهي – حسب التعريف – لا ينتهي أبدا .. إذن وجب ألا تكون هناك أية مدة ترك، ويكون العالم موجودا مع الله منذ الأزل.
الثالث: إن وجود العالم قبل حدوثه ممكن دائما، فلا توجد حالة من الأحوال يمكن أن يوصف فيها العالم بأنه كان مستحيل الوجود ثم أصبح بعدها ممكنا، فإذا كان ممكنا وجوده منذ الأزل، وهو موجود الآن، فهو موجود منذ الأزل.
لقد تم حسم هذه الفضية الآن بعد أن أثبت العلم الحديث أن العالم ليس أزليا، وأن الكون والزمان والمكان والطاقة قد وجدت كلها من العدم منذ حوالي 14 مليار سنة، ومع ذلك فالطريقة التي دحض بها الغزالي أدلة الفلاسفة على أزلية العالم مازالت تثير في النفس الإعجاب الشديد بعبقرية هذا الرجل الفذ (إذا أراد القارئ أن يعرف الخطوط العريضة لنظرية الإنفجار العظيم التي تشرح كيف ظهر العالم إلى الوجود فسيجدها في الفصل الرابع من الباب الأول "قصة الخلق في العلم الحديث" في كتابنا "خواطر ماركسي سابق" والذي يمكن تحميله من الرابط).
يقول الغزالي: "بم تنكرون على من يقول أن العالم حدث بإرادة أزلية قديمة لكنها اقتضت وجوده في الوقت الذي وجد فيه، وأنها اقتضت أن يستمر العدم إلى الغاية التي استمر فيها، وأن يبدأ الوجود حيث ابتدأ، وأن الوجود قبله لم يكن مرادا فلم يحدث؟ .. إن قلتم أن العقل يحكم بالضرورة باستحالة إرادة قديمة يحدث بها شيء متأخر عنها بدون مرجح، فإن ادعيتم معرفة هذا بضرورة العقل، فكيف لم يشارككم مخالفوكم في هذه الضرورة العقلية؟ [أي أن مقولة الفلاسفة التي إعتبروها مقدمة في البرهان تحتاج هي نفسها لإثبات، فهي ليست بديهية تقبلها كل العقول بغير برهان، فلو كانت بديهية لسلم لكم بها المخالفون كما يسلم كل الناس بالبديهيات التي هي من ضرورات العقل، مثل أن الكل أكبر من الجزء، وأن النقيضان لا يجتمعان .. إلخ. لكن هذه المقدمة ليست بديهية وتحتاج هي نفسها إلى برهان - ع]، والفرقة المعتقدة بحدوث العالم بإرادة قديمة سابقة على حدوثه لا يحصرها بلد ولا يحصيها عدد، ولا شك إنهم لا يكابرون العقول عنادا مع المعرفة .. لابد من إقامة البرهان على استحالة ذلك، إذ ليس في جميع ما ذكرتموه إلا مجرد الاستبعاد، والتمثيل بعزمنا نحن البشر وإرادتنا [ذلك أن الإنسان إذا أراد شيئا فإنه لا يتراخى عن تنفيذه إلا بسبب العجز أو وجود ما يمنعه، ولما كان الله لا يعجز عن شيء ولا يمنعه مانع، فلابد – عند الفلاسفة – ألا يكون الخالق قد تراخى في الخلق -ع]، وهو تمثيل فاسد، فلا يصح أن تضاهى الإرادة القديمة بإرادة المخلوقات الحادثة، والاستبعاد المجرد لا يكفي من غير برهان".
ولا يكتفي الغزالي بإثبات فساد مقولتهم وافتقارها للدليل العقلي، بل يأتي بفكرته العبقرية عن الزمان، والتي سبقت عصرها بألف سنة، فيقول: "إن جرم العالم متناه في أقطاره، وتصور امتداد العالم إلى ما لانهاية هو من أخاديع الوهم، وهذا يعني أن المكان، وهو تابع لامتداد العالم، متناه أيضا، ولا يمكن تصور مكان خارج حدود العالم [وهذا هو تصور العلم الحديث عن الكون وبحذافيره -ع] .. والزمان هو قدر الحركة، بل هو الحركة التي يستغرقها المتحرك في اجتياز مكان معين، وإذا كان المكان متناهيا وجب أن يكون الزمان متناهيا أيضا ، أضف إلى ذلك أن الزمان بدأ ببدء العالم، وحدث بحدوثه، بل أن الله خلقه بمجرد خلق العالم [يقول العلم الحديث أن الزمن قد بدأ فعلا في لحظة معينة لم يكن قبلها زمان ولا مكان، وهذه اللحظة كانت من حوالي 14 مليار سنة -ع]، وتصور زمان قبل زمان العالم خدعة من أخاديع الوهم".
هل في هذا الكلام رفض للفلسفة كمنهج في التفكير، أم أنه رفض للفلسفة باعتبارها مجموعة مقولات معينة لا تتفق مع التفكير المنطقي؟ .. وسواء اقتنعت بكلام الغزالي أم كان في نظرك أضعف من أن يهدم مقولات الفلاسفة الإغريق (مع أن العلم الحديث قد هدم أغلبها وانتهى الأمر)، فلن يسعك إلا أن تعترف أنه كلام عقلاني منظم لا يحتمي بسلطة النص المقدس في أي نقطة من نقاطه، وهو بالإضافة إلى ذلك يسير على قواعد منطق أرسطو ولا يحيد عنها قيد أنملة.