الحملة على الفلاسفة

منذ 6 سنة | 1924 مشاهدات

حاولنا أن نعرض في المقالات السابقة بعض المقولات والأفكار التي كان يرَوج لها بين المسلمين منذ القرن الثالث الهجري على أنها من الحقائق اليقينية التي توصل لها الفلاسفة، بالطبع كان هناك أيضا بعض الكلام الراقي والذكي في مجالات أخرى، ولكنه جاءنا مختلطا بخزعبلات الميتافيزيقا التي عرضناها، والتي تخالف، وأحيانا تهدم، أهم الأركان الإعتقادية عند المسلمين، فما كان لعلمائنا أن يغضوا الطرف عنها .. كان التصدي لها واجبا يحتمه عليهم إيمانهم، قبل أن يكون حقا لايجوز لعلمانيينا جحدهم إياه.  

يمكنك بالفعل أن تجد في كتابات بعض علماء السلف كلاما ضد الفلسفة هو أقرب إلى الشتم والهجاء منه إلى النقد الموضوعي، وهو أقرب إلى تحريض العوام ضد الفلاسفة منه إلى تفنيد آراءهم ودحضها بالعقل .. نعم .. مثل هذه الكتابات قليلة، لكنها موجودة، ولكن لماذا اختيار هذه الكتابات وحدها دون غيرها لتمثيل أفكار الفقهاء؟ هل يخلو هذا الاختيار من الغرض؟ .. وبعض الغرض - كما نعرف - مرض.

قبل أن نعرض للحوار العقلي الذي دار بين الطائفتين، من المناسب أن نقف قليلا عند هذا الجانب االتحريضي الذي مارسه بعض الفقهاء، لا نريد أن نتجاهل تلك الكتابات الخطابية الموجهة إلى وجدان الجماهير وقلوبهم لا إلى عقولهم، فنحن نراها طبيعية، ولا تخلو منها كل الصراعات الفكرية في كل الحضارات والثقافات، حتى في عصرنا الحديث الرشيد العقلاني المتسامح المؤمن بالتعددية، لم يكتف قادة أي اتجاه فكري بالنقاش الهادئ لخصومه، هل اكتفى ماركس بهذا؟ وهل اكتفى به لينين في مواجهة مخالفيه داخل معسكر الاشتراكية، ولا نقول خصومه العقائديين من المعسكر الآخر؟ أم راح يصف الاشتراكيين الماركسيين من غير أنصاره البلاشفة بالإنتهازية والجبن والردة عن الإشتراكية وخيانة نضال الجماهير.. الخ؟ وهل اكتفى المعسكر الآخر بدحض الماركسية وبيان عوارها الفكري أم ركزوا جهودهم على التنفير منها بالحق وبالباطل؟.. ليس غريبا إذن أن يفكر بعض مثقفي الأمة في تعبئة الجماهير وشحنها عاطفيا ضد أي فكر يرون فيه خطرا على أصولها الثقافية، المهم هو أن تستند هذه التعبئة إلى مواقف فكرية وصلوا إليها بعد بحث ودراسة، لا أن تكون مجرد رفض لشيء لا يعرفونه.

لا نريد أن نضع رؤوسنا في الرمال .. نعم بعض هذه الكتابات العاطفية - وهي قليلة جدا والحمد لله - نتمنى لو أنها لم تكن قد كتبت، ولكن هل الاشتغال بالفقه أو الحديث يعصم المرء من المبالغة أو التهور؟ .. هل نستغرب، مثلا، الغضب والانفعال على بعضهم عندما يقرءون كلاما كالذي نقلناه عن ابن سينا؟ وهو كلام يتهم نبيهم بالكذب وينسب السطحية والجهل للكتاب الذي يعتبرونه كلام ربهم.

لكن هذا الرفض لم يكن للفلسفة نفسها كنشاط عقلي كما يريد مثقفونا العالمانيون أن يقنعوا الناس، فها هو ابن حزم، إمام المذهب الظاهري، وآخر من كنا نتصور أن يقبل التفلسف، يقول بالنص في كتابه "الفصل في الملل والأهواء و النحل": "إن الفلسفة على الحقيقة، أي معناها وثمرتها والغرض المقصود نحوه بتعلمها، ليس هو شيئا غير إصلاح النفوس، وهذا نفسه لا غيره هو الغرض في الشريعة، وهذا ما لا خلاف فيه بين أحد من العلماء بالشريعة  .. اللهم إلا لمن انتمى إلى الفلسفة بزعمه وهو ينكر الشريعة بجهله على الحقيقة بمعاني الفلسفة وبعد عن الوقوف على غرضها ومعناها ".. هل تتصور هذا، ابن حزم نفسه لا ينكر قيمة الفلسفة، بل يأخذ على متفلسفة المسلمين جهلهم بحقيقتها.

وانظر إلى فقيهنا عبد الرحمن بن خلدون، صاحب "المقدمة" وإمام أهل السنة في عصره، يصوغ موقفه الراقي في عبارة من الكلام النفيس:"أما ما كان منها [يقصد البراهين الفلسفية] في الموجودات التي وراء الحس، وهي الروحانية، ويسمونه العلم الإلهي أو علم ما وراء الطبيعة [الميتافيزيقا]، فإن ذواتها مجهولة رأسا، ولا يمكن التوصل إليها ولا البرهان عليها، لأن تجريد المعقولات - من الموجودات الخارجية الشخصية - إنما هو ممكن فيما هو مدرك لنا، ونحن لا ندرك الذوات الروحانية .. لعل هناك ضربا من الإدراك غير مدركاتنا، لأن مدركاتنا مخلوقة محدثة، وخلق الله أكبر من خلق الناس، والحصر مجهول، والوجود أوسع نطاقا من ذلك [..] وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه، فالعقل ميزان صحيح، فأحكامه يقينية لا كذب فيها، غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد وحقيقة النبوة وحقائق الصفات الإلهية وكل ما وراء طوره [أي العقل]، فإن ذلك طمع في محال" .. العقل عنده - عندما يعمل مستقلا - لا يمكنه إدراك ما وراء الطبيعة، لأنه لم يخلق للعمل في هذا المجال، وكل التجريدات والتعميمات التي يستطيع العقل القيام بها إنما تبدأ من الواقع كما ندركه بحواسنا، فكيف يمكن للعقل أن يصدر أحكاما في مسائل لا يمكن للحواس أن تدركها؟ .. لكنه "ميزان صحيح وأحكامه يقينية لا كذب فيها" إذا استخدم في مجاله، هذا هو تعليق ابن خلدون، المفكر العبقري، على تشويشات الأفلاطونية الحديثة في مسألة الفيض والعقول والنفوس .. الخ، ذلك أن ابن خلدون لم يكن واقعا تحت تأثير خرافة العقل الفعال، لكنك لو كنت مقتنعا - كالفلاسفة - بأنك تستطيع الإتصال بالعقل الفعال، الذي هو عقل العالم كله، لاعتبرت أن التفكير المجرد - الذي هو قبس من هذا العقل الأزلي بزعمهم - يمكن أن يقودك لمعرفة أي شيء وكل شيء.

بالطبع لم تكن كل اعتراضات الفقهاء موجهة إلى مزاعم سخيفة قدمها الفلاسفة عارية من أي دليل، أو أوهام وخيالات لاعقلانية، فقد كانت للفلاسفة محاكمات عقلية معقدة وصلوا من خلالها إلى نتائج تخالف عقائد المسلمين، وهذه فندها الفقهاء بالمناقشات العقلية العميقة .. وتميزت خلال هذه المناقشة مدرستان: مدرسة الغزالي الذي ناقش مقولات الفلاسفة بالمنطق، واستخدم مناهجهم ذاتها لإثبات أنهم أخطئوا النظر، دون أن يعترض على المناهج نفسها، ومدرسة ابن تيميه، الذي عمل على البرهنة على أن هناك عيوبا جوهرية في المنهج نفسه، وليس فقط في طريقة استخدامهم له.

 

شارك المقال