منذ 7 سنة | 3354 مشاهدات
بسبب طبيعة الإنتاج الفلسفي نفسها التي تتسم بقدر لا بأس به من الذاتية سنجد قدرا من التنوع الفكري داخل ما سمي ب"الفلسفة الإسلامية"، لكننا سنجد أيضا قواسم مشتركة بين هؤلاء الذين تابعوا فلاسفة اليونان، ومن بين هذه القواسم ما نقلوه من الميتافيزيقا، وفي ثناياه ما أثار معارضة شديدة من علماء المسلمين، وسنعرض هنا للعلمين اللذين أثرت أفكارهما أبلغ تأثير في هذا المجال:
الفارابي
للفارابي كلام جميل في إثبات وجود الله، وكلام أجمل في عجز عقولنا بطبيعتها إزاء صفاته جل وعلا، ولكنه عندما يصل إلى قضية الخلق يتخلى عن أسلوبه الذكي بطريقة غير مفهومة، فهو لم يكتف بما اخترعته الأفلاطونية الحديثة من عقول ونفوس وأفلاك، فذهب يزيدها عقولا ونفوسا وأفلاكا، حتى لتحسب أن الذي يخال هذه الأخيلة إنسان آخر.
ورغم أن الفارابي في آرائه في الأخلاق والسياسة يجعل للدين شأنا كبيرا في تهذيب النفوس وإصلاح المجتمع ، إلا أنه يعده من حيث القيمة المطلقة أدنى مرتبة من المعرفة العقلية الخالصة، فالنبي عنده يتلقى حقائق الدين بقوة المخيلة، وهو يضع قوة المخيلة في مرتبة أدنى من القوة العقلية التى يتلقى بها الفيلسوف علمه .. ولا تتصور أنه يعني بالقوة العقلية قوة الحجة والدليل والبرهان، فعندما تقرأ كلامه عن العقل الفعال ترى للقوة العقلية معنى آخر عنده.
يقول الفارابي عن العقل:"العقل الفعال أزلي وواحد (يسميه في مواضع أخرى: الروح الأمين، أو الروح القدس، وبعض الفلاسفة المسلمين يرى أن جبريل هو نفسه العقل الفعال الذي تكلم عنه فلاسفة اليونان) .. فليس ثمة عقول متعددة، وانما هناك عقل واحد فحسب، وهو ليس قوة من قوى النفس الإنسانية، وليس حالا في أية نفس، ولهذا فالعقل الفعال خارج النفس وليس داخلا فيها .. على النفس، أية نفس، إذا أرادت الاتصال والمعرفة، فعليها الإتصال بهذا العقل الفعال .. ولما كان العقل الفعال هو آخر عقل في سلسلة العقول السماوية، فإنه لهذا نقطة الاتصال بين العالمين السفلي والعلوي، وكلما اتسعت معلومات المرء كلما اقترب من العالم العلوي، ودنت روحه من مستوى العقول المفارقة، فإذا وصل إلى درجة العقل المستفاد أصبح أهلا لتقبل الأمور الإلهية، وأضحى على اتصال مباشر بالعقل العاشر".
والنص كما ترى يمتلئ بالأوهام .. فلنتجاوز عن الطريقة التي وصلوا بها إلى تلك الدعاوى، وهي على كل حال لم تكن إلا نوعا من التأمل العقلي والتداعي الفكري، يصعب أن نصفه بأنه استدلال عقلي يبدأ من مقدمات ثابتة ليصل إلى هذه النتائج العجيبة، ولنركز على الخلفية الفكرية التي يعبر عنها، أي وجهة نظر هؤلاء الفلاسفة المسلمين في الدين والوحي والنبوة .. إن الإنسان عند الفارابي يمتلك جسدا وروحا ونفسا، ولكنه لا يمتلك عقلا، ويمكنه باستخدام حواسه أن يجمع معلومات، ولكن عملية التعقل، أي فهم العلاقات بين الظواهر المختلفة ومعرفة العلل الكامنة خلف الأحداث، وربط المقدمات بالنتائج وتحديد الأسباب، فلن يتمكن منها المرء إلا بأن يتصل ب"العقل الفعال"، والإنسان الذي يرغب في هذا الاتصال عليه توسيع معلوماته، وكلما جد واجتهد في ذلك إرتقى واقترب من مستوى العقول العليا، وفي النهاية سيمكنه عن طريق عمله أن يتلقى الأنوار الإلهية .. وكل من يدفع الثمن سيحصل على المقابل، كأن النبوة هي أحد ظواهر الطبيعة التي تخضع لقانونها، وليست إصطفاءا إلهيا.
ابن سينا يضارع ابن سينا أستاذه الفارابي سحرا واتزانا عندما يتكلم في إثبات وجود الله، كما يضارعه، أو يتفوق عليه، في الإسفاف والتدني عندما يتكلم في مراتب الصدور والعقول و الأفلاك، وكلامه في العقل يكاد يطابق كلام الفارابي:"ليس ثمة عقول فعالة متعددة بتعدد النفوس البشرية، بل يوجد عقل فعال واحد يشرق بعلمه ونوره على كل العقول البشرية المريدة التي تسعى نحوه"، و" .. العقل الفعال ليس هو الله، لأن العقل الفعال هو آخر عقل في سلسلة العقول الصادرة عن واجب الوجود"، أما كلامه في النبوة فأسوأ من كلام الفارابي، يقول ابن سينا: "ما كان يمكن موسى بن عمران مع أولئك العبرانيين، ولا يمكن محمدا مع أولئك العرب الجفاة، أن يبينا لهم الحقائق على ما هي عليه، فإنهم يعجزون عن فهم ذلك، وإن فهموه على ما هم عليه أنحلت عزماتهم عن إتباعه، لأنهم لا يرون فيه من العلم ما يقتضي العمل"، فهو يزعم أن الأنبياء، برغم علمهم بالحقائق، يعلمون العوام ما يخالف تلك الحقائق التي يعرفونها، وذلك لمصلحة هؤلاء العوام، لأنه يذهب إلى أن التوحيد - كما يراه هو بالطبع - لا يمكن ذكره للعامة من العرب الأجلاف، لأنهم لو خوطبوا به لرفضوه، فيقول ".. ولهذا ورد التوحيد تشبيها كله، ثم لم يرد في القرآن من الإشارة إلى هذا الأمر الأهم شيء، ولا أتى بصريح ما يُحتاج إليه من التوحيد ببيان مفصل، بل أتى بعضه على سبيل التشبيه الظاهر، وبعضه تنزيها مطلقا عاما جدا لا تخصيص ولا تفسير له .. وإن كان الأمر في التوحيد هكذا، فكيف فيما هو بعده من الأمور الإعتقادية؟" .. وهو كما ترى يسمي التوحيد الوارد في القرآن تشبيها، فابن سينا يتبنى مذهب فلاسفة اليونان في تنزيه الله عن كل عمل، وبذلك تغدو في نظره كل الأعمال المنسوبة لله في القرآن من الخلق والتدبير والسمع والبصر والقيام بأمر الوجود هي تشبيه للخالق بالمخلوق، فهذه الأعمال عندهم تحط من منزلة الإله المتعال، بل هي من شأن العقول والأفلاك والنفوس السماوية التي اخترعوها لهذا الغرض، وهذا كلام لابد أن يثير الحفيظة .. فمعنى هذا أن القرآن إذا لم يذكر أسلوب الخلق الذي اقترحه فلاسفة اليونان يكون هو المخطئ والإغريق هم مصدر الحقائق!! .. إذا كان الوحي ليس هو المصدر المناسب لمعرفة علاقة الخلق بخالقهم فأي وظيفة تكون له إذن؟