أتجاهات المسلمين في بحث العقائد

منذ 6 سنة | 1868 مشاهدات

يصنف مؤرخو الفكر الإسلامي علماء المسلمين في تناولهم العقلي لمسائل العقيدة إلى أربعة طوائف رئيسية، هم: الفقهاء، والمعتزلة، والمتكلمين، والفلاسفة.

    وإذا كانت مهمة الفقه هي استخراج الأحكام العملية المتعلقة بأفعال العباد من مصادرها الشرعية، كالفرض والمحرم والمباح والمندوب والمكروه، فإن كبار الفقهاء لم يقتصروا بالطبع على هذه المهمة وحسب، فكان ضمن ما تناولوه مسائل العقيدة المختلفة، كإثبات وجود الله، وصفاته، وطبيعة أفعال العباد، وتعريف الإيمان والكفر، والجبر والاختيار (هل الإنسان مخير أم مسير)، والبعث والنشور والحساب، وغيرها من أمور الغيب، غير أن منهجهم تميز بالإرتكاز على الكتاب والسنة، مؤكدين أن فيهما الغناء، ليس لمجرد أن القرآن كتاب ثبت أنه من عند الله، ولكن لاشتماله على الحجج والبراهين، فهو لا يقدم أخبارا مجردة ثم يلزمنا بتصديقها بسلطة النص الإلهي، بل يحتوي على الأدلة المثبتة للأفكار التي يقدمها، والفقهاء لا يعرضون التصورات الإعتقادية إلا بالطريقة التي قدمها بها القرآن، ولا يستخدمون إلا أدلته.

    أما المعتزلة فقد إنتصبوا أساسا للدفاع عن عقائد الإسلام ضد خصومه، وكان جدالهم جدالا عقليا في المقام الأول، لأن هؤلاء الخصوم لا يسلمون بالمصدر الإلهي للقرآن، ولا يمكن من ثمة الاحتجاج عليهم بآياته، لذلك اضطروا للإستعانة بالمناهج الفلسفية ، ولأن المرء مأخوذ بأسلحة خصمه، فقد تشربوا في تطورهم الفكري ببعض أفكار الفلاسفة وأساليبهم في الاستدلال، خاصة في قضايا التوحيد و الصفات الإلهية، ومع أنهم بدءوا بالتسليم بصحة كل ما ورد في القرآن، فقد بدت على المتأخرين منهم مسحة من أثر الأفلاطونية الحديثة.

    وقد نشأ الأشاعرة، ثم الماتريدية، كمتكلمين في العقائد من أهل السنة، في منطقة متوسطة بين الفقهاء والمعتزلة، ويقول ابن خلدون في "المقدمة" عن مسائل علم الكلام:"إنما هي عقائد متلقاة من الشريعة كما نقلها السلف من غير الرجوع فيها إلى العقل .. وما تحدث فيه المتكلمون من إقامة الحجج فليس بحثا عن وجه الحق فيها، أو لإثبات معلوم بعد أن لم يكن معلوما،[فهذا شأن الفلاسفة]، أما علم الكلام فهو  التماس حجج عقلية تعضد عقائد الإيمان ومذاهب السلف"، ولكن بحلول القرن السابع الهجري كانت المناهج الكلامية قد أخذت في الابتعاد عن القرآن والأدلة النصية بوجه عام، بتأثير إعتزالي غلب على متأخري الأشاعرة، حتى قرر الرازي أن الدليل النصي لا يفيد اليقين لأسباب عددها، مما اضطر ابن تيميه لأن يؤلف ضده واحدا من أهم كتبه وهو "درء تعارض العقل مع النقل".

    أما الفلاسفة المسلمون فقد تقبلوا الفلسفة اليونانية وتبنوها في حماسة بالغة، لقد كانوا مؤمنين بالله الواحد الأزلي بغير شك، ولهم براهين صادقة ذكية في إثبات وجوده، ولكنهم أخذوا عن الأفلاطونية الحديثة ترهات كثيرة، ولعلهم حسبوها من كلام أرسطو، مثل الفيض والصدور والواحد الذي لا يمكن أن يصدر عنه إلا واحد، والعقول العشرة والنفوس والأفلاك .. إلى آخر هذه الخزعبلات.

    والفارق الجوهري بين المعتزلة والأشاعرة والماتريدية، من جهة، ومتفلسفة المسلمين من جهة أخرى، هو أن الأولين يبدأون من التسليم بصحة العقائد التي أثبتها القرآن، وقد استخدموا، بدرجات مختلفة، المنطق ومناهج الاستدلال اليونانية في إثبات صحة تصورهم لهذه العقائد، لكنهم كانوا حريصين على أن يردوا كل فكرة يقولون بها إلى القرآن، حتى لو كان ذلك بنوع من التأويل البعيد الذي يعترض عليه الفقهاء، أما الفلاسفة فإنهم يبدأون من المقررات الفلسفية في الميتافيزيقا اليونانية ثم يبحثون عنها في عقائد الإسلام، ولم يتورع الكثيرون منهم عن مخالفة هذه العقائد في تصويرهم لعالم الغيب، دون أن يصرحوا بإنكار ما جاء في القرآن، وإنما يقولون أن الآيات التي تناولت العقائد لم تكن ترمي إلى عرض حقائق الغيب بقدر ما كانت ترمي إلى تربية البسطاء من المؤمنين وتقريبهم إلى الله، فتخاطبهم بما يمكن أن يفهموه دون أن تصرح بالحقائق التي لا يمكن للعوام أن يفهموها، أما هم، الفلاسفة، فقادرون بعقولهم على الوصول إلى تلك الحقائق السامية في نظرهم، وسنعرض في المقال التالي لأشهرهم.

 

شارك المقال