منذ 7 سنة | 4206 مشاهدات
"الميتافيزيقا" هي البحوث الفلسفية في ما وراء الطبيعة، أي ما نسميه "عالم الغيب" بالمصطلح الإسلامي، وبرغم ما لمسناه في المقال السابق من خلط وأوهام اكتنفت تفكير فلاسفة اليونان بصفة عامة عندما تكلموا عن صفات الله وعلاقته بهذا العالم فإن براهينهم العقلية على وجود الإله ووحدانيته ما زالت تستثير الإعجاب، وتشهد على أن العقول المرتبة المنظمة تنصاع راغمة إلى الإذعان لفكرة أن العالم لا يمكنه أن يوجد بدون قوة عليا، ولكن كلام هؤلاء الفلاسفة – رغم جماله وقوته – لم يستطع أن يتجاوز نطاق هذا العالم المادي، فالعقول التي أنتجته إنما هي جزء من هذا العالم، تبدأ مما تدركه منه، ويظل تفكيرها في هذه المدركات محدودا بحدوده.
لقد افتتن طائفة كبيرة من علماء العقائد المسلمين (رجال علم الكلام) ببراهين فلاسفة اليونان المؤلهين على وجود الله، فتبنوها وبنوا عليها مناهجهم في دراسة العقائد، وهذه البراهين متضمنة فعلا في آيات القرآن، غير أنها لم تكن هي الأساس الذي اعتمد عليه المنهج القرآني في عرض العقائد وإثباتها، لذلك اعترض كبار علماء الشريعة وأئمة فقهها على أسلوب هذه الطائفة من المتكلمين، وبنوا اعتراضاتهم على نقطتين رئيسيتين:
الأولى: هي أن تبني أدلة الفلسفة اليونانية التي تعتمد على التأمل العقلي الصرف باستخدام منطق أرسطو قد يؤدي ببعض العقول المسلمة إلى التمادي مع هذه الفلسفة إلى أبعد من البرهنة على وجود الله، إلى استخدامها في الولوج إلى مجال صفاته وعلاقته بمخلوقاته (وقد حدث هذا بالفعل كما سنرى)، وفي هذا المجال تعاني الفلسفة اليونانية من خلط وأوهام قادتها إلى أفكار كثيرة خاطئة وسخيفة.
والثانية: هي أن منطق أرسطو هو أداة عقلية عاجزة عن إنتاج المعرفة، لكنها مفيدة في الجدل، لذلك تبدو مقنعة في مواجهة المشركين وأهل الكتاب الذين يسلمون بقضية الألوهية ويختلفون معنا حول التوحيد، أما في مواجهة الملحدين (الدهريين بمصطلح السلف) فتقف عاجزة بلا حول ولا قوة (وهذا ما نجده في عصرنا الحالي عندما أصبح التدين يقف في مواجهة الإلحاد)، أما منهج القرآن في البرهنة على وجود الله فهو الأساس المتين الصالح لبناء تصورات إسلامية متكاملة عن الله والوجود والحياة والإنسان.
إن أهم الأدلة الفلسفية على وجود الله ووحدانيته في نظرنا هي دليل الحدوث ودليل النظام، أما الأدلة الأخرى، كالعناية والاختراع والعلة الكافية .. إلخ فلا نراها إلا تنويعات على ذات اللحن الذي يعزفه دليلا الحدوث والنظام، فسنعرضهما، وما نقوله فيهما ينسحب عليها كلها.
دليل الحدوث
يعتمد هذا الدليل على فكرة أن كل الموجودات التي نعرفها قد حدثت في زمن معين لم تكن موجودة من قبله، وكان حدوثها نتيجة لأسباب سبقتها، وهذه الأسباب هي نفسها نتيجة لأسباب أسبق منها، وهذا التسلسل في الأسباب لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية، لا بد أن نصل إلى سبب موجود بذاته لم يوجده سبب قبله، وهذا السبب الأول هو الله.
ويواجه هذا الدليل بعض الإعتراضات المنطقية التي تحد عند الكثيرين من قيمته كإثبات لوجود الله رب العالمين الذي تؤمن به الأديان، مثلا:
وفي العقود الأخيرة أدلى الملحدون الجدد بدلوهم، فقالوا أننا نسلم بأن الكون ليس أزليا، فقد حدث إنفجار عظيم منذ حوالي 14 مليار سنة، لكن العالم من لحظتها يسير وفق قوانينه (راجع نظرية الانفجار العظيم في كتاب "خواطر ماركسي سابق" فقد عرضناه في الفصل الرابع من الباب الأول) .. وإذا كان وقوع الإنفجار العظيم بدون سبب هو أمر عجيب حقا، فإن ذلك لا يدعونا لتصديق أمر آخر أعجب منه، وهو أن هناك إلها مازال يسير كل شيء حتى الآن.
دليل النظام
جوهر هذا الدليل هو أن الطبيعة تكشف لنا عن نماذج من التوافق التام بين الوسائل والغايات، وهذا لا يمكن أن يحدث إلا بتخطيط مسبق، والتخطيط لابد له من مُخطِط.
ويتخلل عرض هذا البرهان ضرب بعض الأمثلة من الطبيعة، كالنظام الشمسي وعين الإنسان وقيام النحل بتلقيح الزهور وغيرها من الأمثلة التي تثبت وجود توافق دقيق بين عدد من العوامل للقيام بوظيفة معينة، وإذا اعتبرنا أن إنجاز هذه الوظائف هو غاية مقصودة، فإن هذا التوافق يبرهن على وجود القوة ذات الإرادة والذكاء التي صممت هذه الوسائل لتصل إلى غايتها.
وقد واجه هذا الدليل بدوره بعض الإعتراضات المنطقية التي تدور كلها حول إنكار فكرة الغائية نفسها .. بمعنى آخر: ماذا في وجود النظام يبرهن على أن النتيجة كانت غاية مقصودة تم التخطيط لها؟ .. لماذا نفترض ان هناك من كان يريد للإنسان أن يبصر فصمم له عينا قادرة على الإبصار؟ .. لماذا لا نقول أن العين وجدت بالصدفة، ولما وجد الإنسان أن عنده عينا تبصر أخذ في الإستفادة منها .. أما الزعم بأن تعقيد العين لا يمكن أن يتم بالصدفة فهذا لا يوجد عليه دليل منطقي (بالمعنى الوناني الذي يشير إلى منطق أرسطو، لكن توجد بالطبع أدلة أخرى على استحالة الصدفة، وليس هذا مقام عرضها)، فهناك أشياء عديدة بعيدة الإحتمال لكنها تحدث بالصدفة، ثم لماذا لا نأخذ إلا الأمثلة المفيدة لنا ثم نقول أنها كانت هي الغاية من هذا النظام، هناك حوادث كثيرة ضارة تحدث أيضا، مثل حدوث تسونامي أو سقوط نيزك مدمر .. هل هذه أيضا من غايات النظام؟ .. لو كان كل ما يحدث حولنا نافعا لنا لكان من المعقول أن نقول أن هناك من يهتم بنا ويخطط لكل ذلك، لكن ما يحدث في العالم هو أشياء نافعة وأشياء ضارة، وهذا يجعل ما نعتبره نظاما له غاية ليس إلا نتائج عشوائية لبعص المصادفات .. بالطبع يشوش هذا الإعتراض الأخير – وجود أشياء ضارة بجوار الأشياء النافعة – علي الكثيرين، لكنه اعتراض متهافت، فالمصادفات العشوائية معناها أن كل الإحتمالات لها نفس القيمة، وبذلك فإن كل نفع سيقابله ضرر، ولو كان ذلك صحيحا لما حدث أي تقدم، لكن الواقع هو أن المنافع التي يحققها النظام أكثر بكثير من أضراره، وهذا يؤكد عدم عشوائية النتائج، لكن هذا الرد الذي قدمناه للتو يخرج عن مجال القياس الأرسطي، ولكي نصل إليه لابد أن نلجأ للإستقراء المنهجي، ومنطق أرسطو لا يعتبر أن الإستقراء وسيلة من وسائل المعرفة اليقينية .. أما لماذا يوجد الضرر؟ .. لعله موجود حتى ندرك المنفعة، كما لا ندرك قيمة الصحة إلا عند المرض، ولا أهمية الهواء إلا عندما نشعر بالإختناق، أو لعله ليس ضررا خالصا ولنا فيه منفعة على المدى البعيد تتجاوز أضراره المحدودة والمؤقتة، والله أعلم.
الخلاصة: نظر أئمة الفقه الإسلامي إلى الميتافيزيقا اليونانية المنبنية على منطق أرسطو الصوري نظرة شك، وآثروا طرحها جانبا حتى لو كان فيها بعض اللفتات الجيدة، وكان هذا هو سبب حملتهم على من تبنوها من الفلاسفة المسلمين وبعض المتكلمين في العقائد، وهو ما سنفصله في مقالات تالية.