سنبدأ في هذا المقال وما يليه في تقديم الشواهد العملية التي تعزز فكرة الإرتباط الضروري بين الخصوصية الثقافية والمسار الذي يمكن أن يتخذه أي شعب ليخرج من حالة التخلف (راجع المقال الخامس من هذه السلسلة عن الخصوصية الثقافية)، ولن نتمكن بالطبع من عرض كل عوامل النهضة، فنحن نركز على حقيقة أن كل الشعوب التي استطاعت تحقيق نهضتها خارج الحضارة الغربية إتبعت سبل مختلفة عن السبيل الذي اتخذته أوروبا للنهضة، ومن جهة أخرى فإن كل مسار ناجح لم يكن إلا إبنا لثقافة الشعب الذي سار فيه.
وأذا كنا سنفرد للتجربة اليابانية مساحة أكبر من أي تجربة أخرى فما ذلك إلا لأنها كانت هي الأسبق، لذلك مضى الوقت الكافي ليدرك الدارسون معالم تميزها ويحددوا الخواص التي انفردت بها، ويكتبوا ونقرأ ما وجدوه .. نحن نكتب عن اليابان أكثر مما نكتب عن غيرها لأننا نعرف عنها أكثر مما نعرف عن غيرها، لا لأن تجربتها أولى بالدراسة أو أغنى بالعبر(وعلى أي حال فالعبرة الوحيدة التي تهمنا في هذا البحث هي أنه حتى العالمانيين المصريين ينبغي عليهم – إن كانوا مخلصين لوطنهم – أن يتبنوا مسارا إسلاميا للنهضة، وإلا فلن تثمر جهودهم).
في كتابه القيم "رأسا برأس Head to head" يبدأ ليستر ثورو – الحائز على جائزة نوبل في الإقتصاد – عرضه لما اعتبره "المعجزة اليابانية" بملاحظة مندهشة، يمكن ترجمتها تقريبا: "إن المراقب لنمو الإقتصاد الياباني قد لا يجد تفسيرا إلا أن الماء هناك يصعد في العالي" .. فأغلب عوامل القوة التي اعتمدت عليها منظمات الأعمال اليابانية تكاد أن تكون هي بالضبط المحاذير التي ينبه علم الإدارة الغربي من الوقوع فيها باعتبارها ممارسات مفضية إلى الفشل، ونسوق فيما يلي بعض الأمثلة التي أوردها ليستر ثورو وغيرة من خبراء التنمية على ما لاحظوه من فروق جوهرية بين النمطين الأمريكي والياباني في التنمية الاقتصادية والتي تعطيك إنطباعا بأن اليابانيين قد ساروا فعلا عكس الاتجاه في كل شيء تقريبا:
- بينما ترى علوم الإدارة في أمريكا أن المعدل العالي لدوران العمالة هو ظاهرة صحية تعبر عن حيوية المنظمة، إذ معناها أن الإدارة تقوم باستبعاد العمالة السيئة فورا وتعمل على استقطاب أفضل العناصر من خارج المنظمة كلما أمكن، فإن الممارسات اليابانية تقوم على العكس من ذلك تماما، فالعامل يتقاعد عادة في نفس الشركة التي بدأ فيها حياته المهنية.
- وتعتمد المنظمات الأمريكية على نظم صارمة في الثواب والعقاب على أساس فردي، فكل عامل يحاسب على أداءة الشخصي بغض النظر عن أداء أقرانه، لكن المنظمات اليابانية تخلو من هذه النظم، وتعتمد بدلا منها على نظم لتحفيز فرق العمل بشكل جماعي بدون التمييز بين الأفراد.
- تقوم الشركات الأمريكية بالتصعيد في السلم الإداري على أساس نظم تقييم الأداء الفردي، فيتقدم الشباب المتفوق بخطوات أسرع من غيره، أما في الشركات اليابانية فالترقية تتم بشكل روتيني على أساس الأقدمية لفترة تصل أحيانا للخمسة عشر عاما الأولى من خدمة العامل في الشركة، ولا يبدأ الإختيار والتفضيل على أساس المهارة الفردية إلا في المستويات الإدارية العليا، وحتى عندما يتمايز الأفراد في مسئولياتهم الإدارية لا ينعكس هذا في صورة تمايز كبير في الدخول كالذي توصي به أدبيات علوم الإدارة و كما نلحظه فعلا في الممارسات الأمريكية.
- وكنتيجة لإرتفاع معدل دوران العمالة في الشركات الأمريكية لا تبذل هذه الشركات جهودا تذكر في تنمية المهارات الأساسية للعاملين، ويعد رفع المستوى المهني للفرد هو مسئوليته الشخصية، يستثمر جهده وماله لرفع قدراته حتى يحسن من وضعه التنافسي في سوق العمل، لكن إستقرار العمالة وإنتمائها شبه القبلي لجهة العمل في اليابان يعطي الفرصة لأن تتولى الشركة مسئولية تنمية مهارات العاملين فيها دون أن تخشى من هجرة المتميزين منهم إلى المنافسين، تعطي لهذه العملية الاهتمام وتنفق عليها الأموال، ولا تتركها لتكون مسئولية الأفراد.
- وعلى مستوى الأداء الكلي للشركات يلاحظ ليستر ثورو أن الهدف الأعلى لإدارات الشركات الأمريكية هو تعظيم ارباح حملة الأسهم، وأن المديرين هناك يولون أهمية كبرى لإعلانات نتائج الأعمال ربع السنوية ولتوزيعات الأرباح، فأي نتائج منخفضة ستؤدي إلى مسارعة حملة الأسهم لبيع أسهمهم مما يضر بالقيمة السوقية للشركة ويهدد استقرار القيادات العليا في مناصبهم، أما الهدف الأعلى لإدارات الشركات اليابانية فهو تحسين المركز التنافسي للشركة وزيادة حصتها السوقية، فهي مطمئنة إلى حد كبير إلى ولاء حملة الأسهم ولا تخشى كثيرا من تخليهم عنها لمجرد إنخفاض أرباحها على المدى القصير طالما كانت كفاءتها الإنتاجية وحصتها السوقية في تحسن.
- يؤدي حساسية إدارات الشركات الأمريكية للأرباح قصيرة المدى إلى عزوفهم عن خفض أسعار منتجاتهم لزيادة الحصة السوقية أو لغزو أسواق جديدة، أما اليابانيون فيكفيهم وجود إحتمال معقول لتحقيق نتائج إيجابية في السيطرة على أي سوق في المدى الطويل للتضحية بالأرباح قصيرة المدى.
- ونفس الأمر بالنسبة للبحوث والتطوير وابتكار منتجات جديدة، يستطيع المدير الياباني أن يستقطع جزءا كبيرا من الأرباح لتمويل مشروعات التطوير والابتكار الواعدة بأكثر مما يمكن للمدير الأمريكي أن يجرؤ على فعله، والنتيجة أن اليابان حققت الريادة في مجالات كانت تقليديا من نصيب الأمريكان.
- كنتيجة لاختلاف الهدف الأعلى فإن الشركات الأمريكية تسعى لخفض الأجور إلى حدها الأدنى لتقليل التكاليف وزيادة أرباح حملة الأسهم، بينما تعتبر الشركات اليابانية أن زيادة أجور العمال أهم من توزيعات أرباح حملة الأسهم.