الإسلام الحضاري

منذ 6 سنة | 2154 مشاهدات

يرى إريك فروم أنه لم توجد، في الحاضر أو في الماضي، ولا يبدو أنه من الممكن أن توجد في المستقبل، ثقافة أو حضارة يمكن وصفها بأنها لا تعتنق أي دين، وهو بالطبع لم يقصد بالدين المناسك وطقوس العبادة، فقد تخلو بعض الثقافات من مثل هذه الممارسات، لكنه يقصد وجود نسق متكامل ومشترك وشائع يعتنقه كل أفراد المجتمع يشمل التصور العام للوجود والحياة والإنسان ووضعه على الأرض وعلاقته بغيره من البشر (الذي نسميه في الإسلام: العقائد)، وما تفضي إليه هذه التصورات من مسلمات قيمية وأخلاقية وقواعد للسلوك يقبل كل أفراد المجتمع بصحتها ويعملونها في علاقاتهم بشكل عفوي وتلقائي .. إذا كان هذا هو الدين – وهو فعلا الجانب الجوهري في كل دين – فلا يمكن بالفعل تصور أي إجتماع بشري يتقدم بدون دين، فحتى المجتمعات الملحدة لديها تصوراتها المتكاملة عن الوجود والحياة التي تفرز لها مجموعة من القيم والمبادئ والمسلمات يستخدمها الأفراد عند اتخاذ قراراتهم، فالإلحاد بهذا المفهوم هو دين الملحدين.

مثل هذه المسلمات – من التصورات والأفكار والقيم والأخلاق وقواعد السلوك – هي التي تقوم عند الإنسان مقام الغرائز عند الحيوان، فبدونها سيحتاج الفرد إلى أن يبدأ من الصفر في كل مرة يفكر فيها ليتخذ أي قرار، ويفقد المجتمع تماسكه في مواجهة أية مشكلة أو تحد يقابله، فيستغرق الجميع في الجدل ويحتدم الخلاف بينهم في كل قضية (إذا كانت لكل فرد أو مجموعة طريقته الخاصة في الحكم على الأمور وتحديد الأولويات)، ويقول إريك فروم في نهاية شرحة لفكرته أنه بدون خريطة للعالم الطبيعي والإجتماعي الذي يحيط بنا، أي بدون تصور مشترك للوجود ولمركز الإنسان فيه، وبدون مجموعة من المسلمات تحدد المعايير القيمية للمجتمع (كالخير والشر والخطأ والصواب، والحق والظلم والعدل .. إلخ) يفقد الفرد والمجتمع القدرة على التصرف بشكل هادف ومتسق .. وليس من الضروري أن تكون هذه الخريطة صادقة ومعبرة فعلا عن الحقيقة، فحتى الخرائط غير الصحيحة تحقق وظيفة نفسية مهمة للمجموع لا يمكن بدونها بناء حضارة.  

وعندما يتكلم الإسلاميون عن الإسلام الحضاري فإنهم يدورون حول فكرة قريبة مما عرضه إريك فروم، فثقافة شعوب المنطقة قد تشكلت على مدى ألف وربعمائة عام من سيادة المنظومة الثقافية والقيمية والأخلاقية التي قدمها لهم الإسلام، بغض النظر عن الطريقة التي يتعبد بها إلى الله كل واحد منهم، ولا يمكن بناء حضارة حقيقية، قوية وراسخة، بمعزل عن هذه المنظومة إلا إذا استبدلتها بمنظومة أخرى، فإذا كنت تعترض على المرجعية الإسلامية كأساس لبناء النهضة فعليك أن تقترح منظومة عقائدية وقيمية وسلوكية أخرى، وأن تنجح في إقناع الشعب بتبنيها، وإلا فإن النتيجة الوحيدة لاستبعاد المرجعية الإسلامية دون استبدالها بإخرى تنغرس في عقول ووجدان الناس ستكون هي استمرار حالة من الخلافات المزمنة تفضي إلى عجز المجتمع وفشله وبقائه في حالة التخلف.

ويستمد الإسلاميون إيمانهم بقدرة الإسلام على إنتاج طبعة جديدة معاصرة من حضارته العريقة من إقتناعهم بأن منظومة الأفكار والقيم والتصورات الإسلامية ما زالت، وستظل بإذن الله، هي الأصلح§، وليس فقط لمجرد أنها الموجودة وأن إحيائها أسهل من تغييرها، وتزخر أدبيات حركة الإحياء الإسلامي بأدلة الإسلاميين على صحة موقفهم، بينما يرى نقاد الحركة الإسلامية أن هذا كله ليس إلا محاولات تبرير عاطفية يريد الإسلاميون أن يصوروها على أنها مناقشات عقلية .. والواقع أنك إذا راجعت ردود هؤلاء العالمانيين لوجدتها إما عبارات إنشائية فارغة، أو مجادلات تستند إلى مغالطات تاريخية، أو إلى وقائع صحيحة لكنهم يحاولون إستنطاقها بما لا تشهد به .. لكننا لا نرغب في الدخول في مثل هذا النوع من الجدل، إذ باتت علوم الإدارة والتنمية تعترف بأنه لا توجد منظومة ثقافية صالحة وأخرى معوقة للتنمية، ولكن توجد طرق متعددة لتحقيق التقدم والنهضة، وكل منظومة ثقافية تناسبها طريقة ولا تناسبها طرق أخرى .. فالقضية عندهم لم تعد بحث مدى ملائمة ثقافة شعب ما لتحقيق النهضة، لكنها صارت البحث عن طريق النهضة الذي يلائم ثقافة الشعب المعني .. أي أننا بتنا نرى من رواد التنمية من يتعامل مع الخصائص الثقافية كمعطى يصمم له طريق للتنمية، بدلا من محاولة "تطوير" الثقافة المحلية لتناسب طريقا محددا سلفا ظنوا في وقت ما أنه الطريق الوحيد للتنمية .. وإذا كان الأمر كذلك فلم يعد محور النقاش هو إثبات أن منظومتنا الثقافية هي الأصلح، يكفي أن تكون هي منظومتنا لنرفض كل ما يتعارض معها من نماذج للنهضة، وأن نصر على أهمية تصميم نموذج يكون مناسبا لما نحن عليه بالفعل .. هذا من وجهة نظر علوم إدارة التنمية واستراتيجياتها، أما عرض قيمة الإسلام كعقيدة ربانية تتجاوز أهميتها قضايا التخلف والتنمية فإنه، رغم أهميته القصوى، يخرج عن موضوع هذا البحث.

 

  • لا يحتاج المسلمون لأن نثبت لهم صلاحية وحي السماء لقيادة حياتهم على الأرض، يكفيهم إيمانهم بأنه من لدن رب العالمين، لكن رحمة الله شاءت أن تعطينا البراهين التي تطمئن بها عقولنا إلى صحة الطريق التي رسمها لنا لنحيا أفضل حياة ممكنة.

شارك المقال