الرفاهية الإقتصادية

منذ 6 سنة | 2001 مشاهدات

في كتابه (الأكثر أهمية من وجهة نظري) "خرافة التقدم والتأخر" يقول الدكتور جلال أمين:

          "لم أشعر قط بالارتياح لذلك التعبير الغريب الذي بدأ في استخدامه في أوائل القرن الماضي، وهو تعبير "الرفاهية الاقتصادية" (economic welfare)، فهو تعبير يوحي بإمكانية تجزئة الرفاهية الإنسانية إلى أجزاء، بعضها اقتصادي وبعضها سياسي أو ثقافي .. إلخ، وهو أمر في رأيي غير جائز، ولعله أقرب إلى المستحيل، ومن ثم فقيام الاقتصادي بقياس أو وصف ما يحدث للجانب الاقتصادي من الرفاهية الإنسانية وكأنه معزول عن بقية جوانب الرفاهية، لا يؤثر فيها ولا يتأثر بها، لابد أن يؤدي إلى أخطاء جسيمة، حتى على مستوى التحليل النظري، ومثل هذا العمل شبيه بالكلام عن "طب الذراع" مثلا، أو "طب الساق"، وكأن ما يحدث للذراع أو الساق يمكن فهمه وعزله عما يحدث لباقي أجزاء الجسم.

          ما أكثر ما كتب من تحذيرات للاقتصاديين من مغبة الاسترسال في هذا الخطأ، والتنبيه والتذكير بأن الإنسان كائن لا يمكن تجزئته إلا بخسارة كبيرة، حتى على مستوى التحليل أو بغرض مجرد الفهم، ولكن كل هذه التنبيهات والتحذيرات ضاعت سدى لأننا ننتمي إلى حضارة آخذة في الخضوع، أكثر فأكثر، للاقتصاد، من ناحية، وتعلي، من ناحية أخرى، من شأن التخصص وتقسيم العمل، إنها حضارة "تكنولجية" في الأساس، والحضارة القائمة في الأساس على تقدم التكنولوجيا لابد أن تقع في هذا الخطأ: المبالغة في الاعتقاد بأهمية الاقتصاد وفوائد التخصص، وفي هذا المناخ يمكن أن تظهر مفاهيم من نوع "الرفاهية الاقتصادية"، التي تقوم على تصور أن رفاهية الإنسان يمكن تجزئتها إلى أجزاء يمكن أن يفهم كل منها على حدة، وأن أهم هذه الأجزاء هو الجزء الاقتصادي" ا.ه. ص 25-26.

          هذه هي الفكرة التي يتمحور حولها كتاب الدكتور أمين كله تقريبا، وهي أن الرفاهية الإنسانية أمر معقد متعدد الأبعاد ولا يجوز اختزاله في الجوانب المادية وحدها، فالتقدم المادي قد يتواكب معه تأخر، وأحيانا تدمير، للعديد من العناصر التي تعطي للحياة معناها وللإنسان قيمته.

          وهي الفكرة ذاتها التي دار حولها نقد أستاذنا الراحل عادل حسين لنماذج التنمية التي قدمتها لنا أدبيات علم "إقتصاديات التنمية Development Economics"، وقد تركز هذا النقد على أن الشعوب الإسلامية تحمل في ثقافتها أبعادا أخرى لمفهوم الرفاهية، ولذلك فإن أي خطة نضعها للنهضة لا يمكن أن يكون هدفها الوحيد أو الأهم هو الوصول إلى أعلى معدل لنمو الناتج القومي الإجمالي مهما كانت التضحيات، مثل هذه الخطط يمكن أن ينتجها الفكر الاقتصادي الاشتراكي، وهي بالتأكيد ما توصي بها أدبيات الاقتصاد الحر وتوجيهات صندوق النقد الدولي، أما الخطط التي سيفرزها الفكر الإسلامي فستنحو، على الأرجح، إلى قبول معدلات أقل في مجال نمو الناتج المادي (التنمية الاقتصادية) حتى يمكنها أن تخصص جزءا من موارد المجتمع كي يتحرك على الأبعاد الأخرى للرفاهية، فتحافظ على النسيج المجتمعي والقيمي وتحقق قدرا معقولا من العدالة الاجتماعية في توزيع نواتج النمو الاقتصادي .. مع التأكيد على أن القبول بمعدل أقل لنمو الناتج الإجمالي في سبيل توزيع أكثر عدالة للثروة لا يعد عندنا نوعا من التضحية، فنمو سريع للناتج القومي يصاحبه زيادة الأغنياء غنى والفقراء فقرا هو الذي ينطوي عندنا على تضحية حقيقية من وجهة نظر الرفاهية الإنسانية الإجمالية للمجتمع.  

           

شارك المقال