العائلة الممتدة (2) العائد الاقتصادي

منذ 6 سنة | 2067 مشاهدات

إن التحليل الليبرالي هو في الواقع تحليل مبتسر، فهو يتجاهل أن العائلة الممتدة لا تأتي وحدها، فهي تنشأ في ظل نسق متكامل من القيم وقواعد السلوك، وبينما يفرض هذا النسق على العائلة رعاية كل أبنائها، فإنه يفرض على هؤلاء الأبناء، بدافع ذاتي ينبع من داخلهم، الإلتزام بالعمل بكل جدية لرعاية مصالح هذه العائلة، فالتربية والقيم الاجتماعية تمارس ضغوطا من نوع يختلف عما يتصوره المثقفون الليبراليون، وهذه الضغوط تمنع الفرد من الكسل والتراخي، وتحول بينه وبين الانحراف والاتجاه للجريمة إذا قعدت به ملكاته عن كسب ما يكفيه، ليس فقط لأن عائلته ستقوم برعايته، ولكن لأنه يأنف من جلب العار لهذه العائلة، وإذا حدث أن انحرف أحد الأفراد فإن عائلته الكبيرة مسئولة أمام المجتمع كله عن تقويم هذا الانحراف وتعويض المتضررين منه.

          وتوجه أدبيات الاقتصاد الحر النقد للثقافات الجماعية بدعوى أن المشروعات فيها تنشأ على أساس العلاقات العائلية، وهذا يقلل من قدرتها على استقطاب خبرات متميزة من "الغرباء"، لأن الترقي للوظائف العليا يكون محجوزا لأبناء العائلة، وبذلك فإن هذه الشركات لن تستطيع النمو بعد حجم معين، وستعجز عن بلوغ الأحجام الكبيرة التي تمكنها من الدخول في المجالات الاستراتيجية أو المنافسة الدولية .. هذا النقد يحتاج إلى مناقشة.

          إن هذه الظاهرة، أي عجز الشركات العائلية عن استقطاب عناصر من خارج العائلة حتى يمكنها النمو إلى أحجام كبيرة تتيح لها العمل في الصناعات الاستراتيجية والمنافسة في الأسواق الدولية ليست ظاهرة عامة، فالمجتمع الياباني، والكوري الجنوبي، نجحا في تخطي هذه العقبة، فبرغم احتفاظهما بثقافتهما الكونفوشيوسية الجماعية وترابطها العائلي الشديد، فقد أمكن للشركات العائلية فيهما أن تستقطب العاملين المتميزين من خارج العائلة، وأن ترقيهم لأعلى المناصب، حتى وصلت بعض الشركات العائلية (من حيث النشأة وملكية رأس المال) إلى حجم عملاق ينافس، بل يحرج، أكبر الشركات الدولية العملاقة.

          وفي وسط إيطاليا، حيث يسود نمط الشركات العائلية التي تعجز عن زيادة حجمها، استطاعوا إنشاء بعض الروابط بين هذه الشركات حتى تمكنوا معا، بدون أن تصل أي واحدة منهم إلى حجم كبير، من أن يكونوا منافسين دوليين أكفاء في بعض المجالات، حتى تمكن إقليم وسط إيطاليا من تحقيق واحد من أعلى معدلات التنمية في العالم.

          أما الصين فقد برهنت على أن الثقافة الجماعية لا تأتي بالعائلة الممتدة وحدها، ولكنها تأتي ومعها الانتماء للجماعة الكبيرة، للوطن كله، فرغم أن عدد قليل من الشركات الخاصة أمكنه الوصول للحجم الكبير، فإن الشركات العامة تعمل هناك بكفاءة معقولة جدا، وتغطي كل الصناعات الاستراتيجية الحيوية، فلا يفتقر الاقتصاد الصيني للقوة في أي مجال من المجالات الصناعية، وإذا كان القارئ قد تأثر بالحملات التي شنت على القطاع العام في مصر، فإرجو أن يرجع إلى فصل "دفاع عن القطاع العام" في كتابنا "بؤس الحل الليبرالي" (يمكنك تحميله كاملا من على هذا الموقع)، لعله يقتنع أن سلبيات القطاع العام المصري كانت نتيجة لعيوب في النظام السياسي، وليست خاصية لصيقة بالملكية العامة ولا يمكن التخلص منها.   

          لا يمكن الزعم إذن، على مستوى الاقتصاد الكلي، أن العائلات الممتدة ستعرقل بشكل حتمي جهود المجتمعات ذات الثقافات الجماعية لتحقيق معدلات عالية من النمو الاقتصادي، فهذه المجتمعات يمكنها أن تجد طرقها الخاصة لتحقيق مزايا الانتاج الكبير دون أن تضطر للتضحية بمزايا شبكة الأمان الاجتماعي الذي تحققه عائلاتها الممتدة لأفراها.

وتعلمنا خبرة الاقتصادات التي تشيع فيها الشركات العائلية أن عبء الحفاظ على العلاقات الممتدة له عائده الاقتصادي المباشر، ولا تقتصر فائدته على العائد النفسي والاجتماعي.

          إن العلاقات الشخصية المتينة ومستوى الثقة المرتفع داخل الشركات العائلية يقلل من تكلفة الرقابة ومن قسوة النزاعات الداخلية بين العاملين، كما يوفر للشركة قدرا أعلى من المرونة والقدرة على تغيير الاتجاه وإعادة الهيكلة في مواجهة التحديات، كما أن مشكلة تدريب العاملين تحل نفسها بشكل تلقائي، فبينما لا تجازف الشركات الصغيرة والمتوسطة عادة بتحمل نفقات تدريب العاملين تحسبا منها لمخاطر مطالبتهم برفع أجورهم أو مغادرتهم الشركة بعد ارتفاع مستواهم، فإن الشركات العائلية تتحمل كل تكلفة تدريب أبنائها بصدر رحب، بل وترسل المتفوقين منهم للحصول على أعلى الدرجات العلمية من الجامعات العالمية.

          والأفراد الناجحين المتفوقين من أبناء العائلة الذين يقع على عاتقهم تكلفة توفير الأمان الاقتصادي للجميع يحصلون أولا على عائد أدبي يحقق لهم مكانة اجتماعية مرتفعة ككبار للعائلة، وهذه المكانة تحقق لهم قدرا من الثقة والوزن له دوره في زيادة قدرتهم على المنافسة في السوق، فكلما ارتفعت المكانة الاجتماعية للتاجر في سوق الشركات العائلية كلما زادت قدرته على الحصول على تعاقدات كبيرة بضمانات مالية أقل، وربما بغير ضمانات، كما يمكنهم تعبئة موارد مالية كبيرة من مدخرات أفراد العائلة وأصدقائهم دون الحاجة للدخول في دهاليز العلاقات البنكية المعقدة وتكلفتها العالية ومخاطرها المرتفعة.

          أرجو ألا يكون القارئ قد خرج بانطباع أننا نعتبر أن العائلات الممتدة أفضل من العائلات النووية بالنسبة لجهود التنمية، فهي في حد ذاتها ليست أفضل ولا أسوأ، فالأمر يتوقف على طبيعة نسق القيم الاجتماعية وقواعد السلوك التي أفرزها هذا النسق، فما أردنا التأكيد عليه هو أن هؤلاء الذين يريدون أن يحملوا العائلات الممتدة جزءا من المسئولية عن فشل خططهم لتنمية مجتمعاتهم ذات الثقافة الجمعية، أو يقفون في حيرة لأن خططهم التي تقتصر حوافز الاستثمار الحقيقية فيها على الشركات الكبيرة لم تؤتي الثمار التي توقعوها (وحوافز الاستثمار في القوانين المصرية مثال صارخ على ذلك)، إنما يتهربون من مسئوليتهم، فهم الذين وضعوا خططهم مقلدين لإجراءات آتت ثمارها في مجتمعات فردية الثقافة والنزعة، وهم الذين يتحملون مسئولية فشل هذه الخطط التي لم تراع التحيزات الثقافية لمجتمعاتهم. 

شارك المقال