العائلة الممتدة – نموذج لأثر التحيز الثقافي (1)

منذ 6 سنة | 2616 مشاهدات

تطورت قواعد السلوك عند الشعوب الغربية في عصر النهضة بشكل يتوافق مع اتجاههم للابتعاد عن ثقافة القرون الوسطى المسيحية وتبنيهم للثقافة الفردية الليبرالية، وكان هذا التطور يخدم في نفس الوقت العلاقات التي يحتاحها النظام الرأسمالي الغربي البازغ وقتها (ذلك أنه توجد رأسماليات عديدة)، ولا يوجد اتفاق بين الدارسين حول أيهما الذي بدأ التغيير: هل انتصرت الرأسمالية فأمكنها نشر فلسفتها الفردية، أم أن الشعوب هي التي تبنت الليبرالية فسمحت السلوكيات الفردية بانتصار الرأسمالية(راجع مبحث "سقوط الإقطاع وتراجع الكنيسة" في الفصل الأول من كتابنا "بؤس الحل الليبرالي.)، على أي حال فالأمر المهم بالنسبة لنا هو أن التقدم المادي الكبير الذي حققه الغرب بنظامه الرأسمالي حدا ببعض مثقفينا إلى افتراض أن هذا هو السبيل الذي ينبغي على الجميع السير فيه، وإذا كانت قواعد السلوك في ثقافتنا ستعرقل هذه المسيرة فإن علينا أن نغير هذه القواعد، متصورين أنهم يعملون بذلك لصالح تنمية مجتمعاتنا، متجاهلين العلاقة التي لا يمكن فصمها بين التحيزات الثقافية وقواعد السلوك، وسنتناول هنا، كمثال، واحدة من القضايا التي يشتمل عليها الموضوع: الموقف من العائلة الممتدة.

          تظهر العائلة الممتدة في المجتمعات التي يتسع فيها نطاق الترابط العائلي ليشمل عددا متزايدا من درجات القرابة، فيشعر الإنسان بأن وحدة الإنتماء الأساسية تشمل الأفراد الذين يجمعهم الجد الخامس أو السادس، تربطه بهم ذات الالتزامات والحقوق والواجبات التي للوالدين والأبناء، وفي بعض مناطق مصر يتسع هذا الانتماء لدرجة أن تعريف العائلة يضم عدة آلاف من الأفراد، وفي مناطق أخرى من العالم ما زالت العلاقات العشائرية، وحتى القبلية، هي سيدة الموقف، أما الثقافة الغربية فلم تعد تعترف إلا بالأسرة النووية، الأب والأم وأبنائهم القصر غير البالغي سن الرشد.

          تحط الثقافة اليبرالية من أهمية العائلة الممتدة، بل تعارضها في الواقع، لأن هذه الرابطة تفرض على الفرد العديد من الإلتزامات الضرورية للحفاظ على تماسك هذا العدد الكبير من الأفراد في كيان واحد، وهذه الإلتزامات تؤثر تأثيرا كبيرا على القرارات التي يتخذها الفرد والتي تحدد أسلوب حياته وعمله وعلاقاته مع الآخرين .. إلخ، والثقافة الفردية تنفر من كل ما يتدخل في حرية الفرد، أما معاداة النظام الرأسمالي للعائلة الممتدة فتجده واضحا في أدبيات منظري الاقتصاد الحر، وأهم الأسباب التي يذكرونها لهذا العداء هو أن اطمئنان الفرد لرعاية عائلته له سيشجعه على الكسل واستمراء العيش على حساب أقربائه، الأمر الذي سيقلل من القوة العاملة في المجتمع، وفي نفس الوقت فإن التزام الناجحين بالإنفاق على أقربائهم الفقراء سيحد من قدرتهم على الإدخار لتحقيق التراكم الرأسمالي الضروري لتوسيع مشروعاتهم وزيادة القدرة الإنتاجية للمجتمع .. يرجع أغلب نقاد النظام الرأسمالي هذا العداء إلى أن العائلة الممتدة تضر بمصالح الرأسمالية، فداخل العائلة يتم تبادل كثير من السلع والخدمات خارج نطاق السوق الذي تسيطر عليه الشركات الرأسمالية، كما أن هذه العائلات تحمي أبناءها من الخضوع الكامل لعلاقات العرض والطلب في سوق العمل، الأمر الذي يضع حدا لقدرة أصحاب الأعمال على تخفيض الأجور، لكن أغلب الإقتصاديين المصريين لا يعترفون بهذا النقد، على أساس أنه نقد ماركسي "متحيز".

         لا يدرك أغلب دارسي الإقتصاد عندنا أن القبول العام للأثر السلبي للعائلات الممتدة لا يرجع إلى صحة التحليل الاقتصادي، وإنما يرجع إلى التحيزات الثقافية لعلم الاقتصاد الحر، الذي يسلم دون مناقشة بصحة معطيات الفلسفة الليبرالية وصدق إفتراضاتها عن الطبيعة البشرية.

          أما إذا نظرنا للأمر من وجهة نظر الثقافات الجماعية (وأهمها هي الإسلامية والكونفوشيوسية، دون أن نغفل ثقافات أفريقيا السوداء التي تسود فيها العلاقات القبلية) فسنجد أن للعائلة الممتدة عائد نفسي واجتماعي كبير، وإن كان من المتعذر قياسه بالأساليب المادية الكمية التي تقاس بها العوائد الاقتصادية، لكنه يؤثر تأثيرا كبيرا في مستوى الرفاهية الإنسانية، لدرجة قد تتجاوز تأثير العوامل الاقتصادية على الرفاهية المنشودة، كالشعور بالأمان مثلا، الأمان على الأبناء الذين يضمن المرء حصولهم على الرعاية الملائمة مهما تدهورت أحواله، الأمان في مرحلة الشيخوخة أو إذا أقعده المرض، الأمان في مواجهة ما يكتنف الحياة اليومية من مشاكل مع الآخرين، وغيرها، وهو الأمان الذي يفتقده الإنسان الغربي بصفة عامة .. لكن دعونا نجاري موضة تغليب الاقتصاد على ما عداه ونحاول في المقال القادم النظر بعيون محايدة، قدر الإمكان، للعوائد الاقتصادية التي يجنيها الفرد والمجتمع من العائلة الممتدة عندما تسود ويتأسس عليها النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.

         

 

شارك المقال