الخصوصية الثقافية

منذ 6 سنة | 2582 مشاهدات

عندما نتكلم عن المرجعية الإسلامية كركيزة للنهضة فلا ينبغي أن نحصر تفكيرنا في الإسلام بمعنى نصوص الدين المنزل من عند الله سبحانه وتعالى، فنحن إنما نتكلم عن الثقافة التي غرست في عقول ووجدان شعبنا على مدى أربعة عشر قرنا، حتى صارت هي الحاكمة للبناء الفكري والنسيج الاجتماعي لكل أبناء العالم الإسلامي، من مسلمين وغيرهم، وقد تبلورت هذه الثقافة خلال مسيرة طويلة قامت خلالها شعوب تؤمن بعقائد الأسلام وتطبق أحكامه وقيمه وأخلاقه بمواجهة العديد من المشاكل والتحديات، حققت فيها انتصارات، وعانت من انكسارات، وتفاعلت مع حضارات أخرى عديدة، بعضها دخل في نسيجها وامتزج بها، وبعضها الآخر ناصبها العداء ودخل معها في معارك طويلة ومريرة، حتى تشكلت فيها هذه الخصائص النفسية والعقلية الجماعية التي يطلق عليها علماء الإجتماع مصطلح "الثقافة".

والاستخدام الدارج لمصطلح "الثقافة" يقرنه عادة بالآداب والفنون، لكن علماء الاجتماع يعطون للمصطلح مفهوما أوسع من ذلك بكثير، وتزخر أدبيات علم الاجتماع بعشرات التعاريفت لمفهوم "الثقافة"، لكنها تنقسم بصفة عامة إلى مجموعتين، تدور الأولى منهما حول أنها تتكون من القيم والمعتقدات والرموز والأيديولوجيات وغيرها من المنتجات العقلية والفكرية للبشر، أما المجموعة الأخرى فتربطها بنمط الحياة الكلي للمجتمع والعلاقات التي تربط بين أفراده وتوجهات هؤلاء الأفراد في حياتهم .. وعلى كل حال فهي تتناول جميعا ثلاث موضوعات مترابطة فيما بينها:

  • التحيز الثقافي: وهو مجموعة المعتقدات والتصورات والقيم المشتركة بين أفراد المجتمع.
  • العلاقات الاجتماعية: أي طبيعة العلاقات الشخصية بين الأفراد وقواعد السلوك التي تحكمها[1].
  • نمط الحياة: وهو التركيبة الحية التي تنشأ من تفاعل التحيزات الثقافية والعلاقات الاجتماعية في مسار الواقع.

واصطلاح "التحيز الثقافي" يستخدم للتعبير عن العوامل الرئيسية التي تنبني عليها الخصوصية الثقافية لمجتمع معين، وليس لتعبير "التحيز" هنا أية ظلال سلبية، بل أن العكس هو الصحيح، فهم يرمون إلى القول بأن كل الثقافات يمكن قبولها، غير أن كل مجتمع ينحاز لثقافة معينة، وعلماء الاجتماع لا يشغلون أنفسهم بالأسباب التاريخية لهذا الانحياز، فهم لا يبحثون عن كيف ولماذا أصبح شعبا ما مسلما أو مسيحيا أو كونفوشيوسيا، ويتركون هذه المهمة لغيرهم من المؤرخين وعلماء الأناسة، فمجال علم الاجتماع هو الفاعليات الاجتماعية القائمة ومحاولة فهمها وتفسيرها والتنبؤ بالشكل الذي سيستجيب به المجتمع للمتغيرات والتحديات التي قد تواجهه, وهو يهتم بثقافة أي شعب لأنها هي التي تحدد الطريقة التي يفهم بها هذا الشعب المواقف المختلفة، وتقدم له البدائل التي يكون من المقبول استخدامها، والثقافة هي التي تشكل الدوافع والقيم التي تجعل الشعب يتفق على أن بديلا ما (الحرب أو السلام أو الحلول الوسط مثلا في حالات النزاع) هو أفضل الحلول.

إن المجتمع لا يقوم ولا يحتفظ بتماسكه إلا بفضل الانحيازات الثقافية المشتركة لأفراده .. فالثقافة هي نمط متكامل للمفاهيم والقيم التي تنظم حياة أفراد المجتمع، وهي التي تمده بالأدوات اللازمة لاطراد الحياة المشتركة فيه، إن الانحيازات الثقافية هي التي تعلم الناس ماذا يفضلون وماذا يكرهون، ماذا يقبلون وماذا يرفضون، فيكون الحكم على السلوكيات بأنها مرغوبة أو غير مرغوبة بناء على مدى توافقها وانسجامها مع القيم والمعتقدات التي يتبناها الأفراد، أو غالبيتهم.

لا يمكن بأي حال الفصل بين التحيزات الثقافية للمجتمع وبين قواعد السلوك والعلاقات السائدة بين أفراده، فالتحيزات الثقافية تنتج رؤية للوجود والحياة تفرز نموذجا معينا للعلاقات الاجتماعية ينسجم معها، ثم تدعمه وتدعو للتمسك به، ولذلك فإن أي محاولة لتغيير نمط العلاقات الاجتماعية لا يمكن أن تنجح إلا إذا واكبها تغير في نظرة الأفراد للوجود والحياة.

يقودنا ذلك إلى أننا إذا أردنا تغيير نمط الحياة الراكد ليتحول إلى نمط منتج وخلاق ومبدع يسير نحو النهضة سيرا حثيثا فإن أمامنا طريقين متمايزين: إما أن نحترم تحيزات مجتمعنا الثقافية ونعمل على إعطائها مضامين حديثة تؤدي لتطوير قواعد السلوك الفردي والعلاقات الاجتماعية بما يقود إلى نمط الحياة القادر على بناء نهضة معاصرة، أو أن نقرر أن العيب يكمن في تحيزات قومنا الثقافية، وأنها هي سبب تخلفهم، فنبدأ في العمل على تعديل هذه التحيزات كي تتوائم مع قواعد للسلوك وأنماط للعلاقات الاجتماعية أفرزتها تحيزات لمجتمعات أخرى حققت نهضتها ونعتقد نحن أن اقتفاء أثرها هو سبيلنا إلى النجاح .. وهنا يكمن جوهر الخلاف بين التيارات الاسلامية وتلك الأخرى التي تريد أن تترسم خطى النهضة الغربية والتي صارت تسمي نفسها "مدنية".

* *

[1]

قواعد السلوك هي الطريقة التي يرى المجتمع أن على الفرد أن يتصرف بها في المواقف المختلفة، ويمارس على أعضائه أنواع عديدة من الضغوط كي يلتزموا بها (كيف يتصرف الرجل والمرأة عند الزواج أو عند الخلاف أو عند الطلاق، ما هي واجبات كل من الرجلوالمرأة في الأسرة، وما هي حقوق وواجبات الآباء تجاه الأبناء والأبناء تجاه الآباء وكيف يؤدونها، وماذا ينبغي على الآخرين أن يفعلوا إذا تم الإخلال بهذه الحقوق والواجبات، كيف يطالب المرء بحقه لدى أقربائه أو لدى الغرباء، ما هو التصرف الملائم عندما يخالف أحد الأقرباء أو الأصدقاء القانون، ماهي واجبات الأغنياء تجاه الفقراء – إن كان عليهم واجبات – وما هي حقوق الفقراء على الأغنياء –إن كان لهم حقوق، ما هي المساحات التي يمكن كشفها من الجسم، وما التصرف حيال من يبالغ ويكشف مساحات أكبر، ما هو التزام العامل تجاه رب العمل وتجاه زملائه .. إلخ)، وأكبر عوامل الإحساس بالغربة هو وجود المرء في مجتمع له قواعد سلوك مختلفة عما تعود الإلتزام به وعن ما يتوقع من الآخرين أن يفعلوا.

Generic placeholder image
Salwa Raafat Othman || salwaraafatali@gmail.com

رائع

شارك المقال