نقض المنطق: دفاع عن العقل المستقيم

منذ 6 سنة | 2221 مشاهدات

يشنع بعض العالمانيين على ابن تيمية بسبب هجومه على المنطق، ويبدو أنهم لا يعرفون عن موقفه إلا عنوان كتابه "نقض المنطق"، وإلا لخجلوا من جهلهم.

          تعودنا أن نعتبر أن التفكير المنطقي هو التفكير المنظم المستقيم الذي يبدأ من المقدمات ليصل إلى النتائج، وإذا كان الأمر كذلك فكيف نتصور أن مفكرا فذا من مفكري الإسلام سينتصب لنقض المنطق، ثم ها نحن بدلا من أن نعتذر عنه نبادر إلى عرض ما قام به على أنه واحدة من أهم إنجازاته الفكرية، ليس في الفكر الإسلامي وحسب، وإنما في الفكر الإنساني كله .. الواقع أن المنطق الذي أثبت ابن تيمية تواضع قيمته وطالب بنبذه ليس هو محض التفكير العقلي المستقيم، وإنما هو تلك القواعد المعينة التي وضعها أرسطو قبل الميلاد بحوالي ثلاثة قرون وسماها "علم المنطق"، ثم سار عليها فلاسفة اليونان ومن شايعهم من المسلمين، واعتبروا أنها الأداة الوحيدة للتفكير العقلي المستقيم، وأن النتائج التي يصل إليها المرء باتباع هذه القواعد هي بالتأكيد نتائج يقينية لا يتطرق إليها الشك.

          لم يكن ابن تيمية هو أول علماء المسلمين الذين أبدوا ارتيابهم من منطق أرسطو، لكن من كانوا قبله لم يبنوا موقفهم منه نتيجة دراسة قواعده، ولكنهم وجدوا أن الفلاسفة الذين استخدموه وصلوا في أبحاثهم عن عالم الغيب (الميتافيزيقا)إلى نتائج تخالف المقررات الإسلامية الثابتة في العقائد، فبنوا رفضهم للمنطق على أساس أن الطريق الذي يوصلك إلى عقائد باطلة لابد أن يكون هو نفسه طريقا باطلا، وأطلق ابو عمرو بن الصلاح (وهو واحد من أعلام علوم الحديث) مقولته الشهيرة، التي يستشهد بها العالمانيون كلما أرادوا التدليل على عداء الإسلام للتفكير العقلي: "من تمنطق فقد تزندق"، أما ابن تيمية فقد درس المنطق دراسة عميقة ليكتشف نقاط الخلل الرئيسية فيه، وليبرهن على فساد الإدعائين الرئيسيي اللذان يدعيهما له المناطقة، فقد وصل إلى أن منطق أرسطو ليس هو الأداة الوحيدة للتفكير المستقيم، وأن النتائج التي يصل إليها ليست يقينية لا شك فيها، ثم أضاف إضافته الرائعة: إذا كان من الجائز أن يستخدم منطق أرسطو في التفكير في المسائل النظرية، على ما فيه من قصور وتعقيد، فإنه بالتأكيد غير صالح للتعامل مع البحث في العلوم الطبيعية، وعاجز تماما عن إنتاج أي معرفة فيها.

          لن نستطيع في هذه المقالة أن نشرح منطق أرسطو ولا أن نبين الطريقة التي نقضه بها ابن تيمية، لكن نقول في عجالة أن البرهان المنطقي الذي يعتمد عليه المنهج الأرسطي للتفكير يعتمد على مقدمة كبرى عامة، مقدمة صغرى خاصة، يصل منهما إلى النتيجة، والمشكلة أن إجراءات هذا المنهج لا تحوي وسيلة لإثبات مقدماته إذا أنكرها المتشكك إلا أن يقام عليها برهان منطقي آخر، مثلا: كل إنسان حيوان (مقدمة كبرى)، وأحمد إنسان (مقدمة صغرى)، إذن أحمد حيوان (النتيجة)، فلو أنكر أحدهم أن كل إنسان حيوان فلن يقنعه هذا البرهان بأن أحمد حيوان، وفي نفس الوقت لو كان المستمع يعلم أن كل إنسان حيوان وأن أحمد إنسان فهو يعلم بالضرورة وبدون هذا البرهان أن أحمد حيوان، ولم يفيده البرهان علما جديدا.

          لقد كانت مأثرة ابن تيمية هي أنه أثبت بأدلة شديدة القوة والوضوح أن منطق أرسطو ليس أداة لإنتاج معرفة جديدة عن أي شيء نجهله، وإن كان أدة جيدة للجدل حول وجهات النظر المختلفة بشأن ما نعرفه بالفعل، وأن الاستغراق في دوامة هذا المنطق لن يؤدي إلى أي تقدم في المعرفة الإنسانية، وهذا هو بالضبط ما قاله بعدها بأربعة قرون فرانسيس بيكون، واضع أسس منهج البحث العلمي الحديث، في كتابه "البناء الرائع": "إن القياس المنطقي لا يطبق على المبادئ الأولية للعلوم (لا يفيد في بناء المقدمات الكبرى)، ويطبق عبثا على البديهيات الوسطى، وهو في هذا لا يباري الطبيعة دقة، وهو يقود إلى التسليم بالقضية شكلا بينما يهرب منه الموضوع"، ويقول روجر بيكون: "لو تركت لي الحرية لأحرقت كتب أرسطو جميعا، ذلك لأن دراستها لا يمكن أن تؤدي إلا إلى الضياع والخطأ وزيادة الجهل".

          ومن الملفت للنظر أن هؤلاء الذين يعلون من شأن ابن تيمية في زماننا المعاصر، وهو يستحق أن يعلو شأنه، يغفلون تماما أنه أول من أنكر جدوى القياس المنطقي في العلوم الطبيعية، وأثبت أن البحث فيها لن يكون مثمرا إلا إذا اعتمد على الاستقراء المنهجي (وهو بالفعل ما نفعله جميعا الآن)، حتى أن واحدا من أبرز علماء المسلمين في العصر الحديث، الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله، عندما ألف كتابا ضخما عن ابن تيمية، لم يأت على ذكر كتابيه "نقض المنطق" و"الرد على المناطقة" ولا موضعاتهما إلا في سطر واحد في سياق عرض كتبه في الجدل وعلم العقائد.

          رضي الله عن عالمنا الجليل، شيخ الإسلام، تقي الدين أحمد بن تيمية، الذي أزاح منطق أرسطو الصوري من على عرش التفكير المنهجي ووضع مكانه طريقة التفكير التي قام عليها علم أصول الفقه، ليأتي من بعده فلاسفة عصر النهضة الأوروبي ليسموها منهج البحث العلمي الحديث، دون أن يشيروا إلى ابن تيمية أو أي من علماء أصول الفقه ببنت شفة.

         

شارك المقال