المذهبية واتباع المذاهب

منذ 6 سنة | 1750 مشاهدات

كثيرا ما ألتقي بشباب متدين، خصوصا ممن يسمون أنفسهم "سلفيين"، يزعجهم كثيرا أن أقول أني "شافعي" المذهب، فيرفع الواحد منهم في وجهي شعار "نحن نتبع الدليل ولا نتبع الرجال"، وهم يتصورون أن هذا هو فقه ابن تيمية (رض) .. فهل هذا هو فعلا فقه ابن تيمية؟

          لقد كان ابن تيمية في كل كلامه يعطي الأئمة حق قدرهم من التقدير، ويعتذر عما يعتبره خطأ منهم، وخصص لذلك إحدى رسائله "رفع الملام عن الأئمة الأعلام"، أما فيما يتعلق بالتزام مذهب أحدهم فله كلام مفصل لا يختلف إلا في الصياغة عما سمعته من مشايخ مذهب الشافعي، فيقول في "الفتاوى": "لما كان من الأحكام ما لا يعرفه كثير من الناس رجع الناس إلى من يعلمهم ذلك، لأنه أعلم بما قال الرسول، وأعلم بمراده، فلأئمة المسلمين الذين اتبعوهم وسائل وطرق وأدلة بين الناس وبين الرسول يبلغونهم ما قاله، ويفهمونهم مراده، بحسب اجتهادهم واستطاعتهم" .. ولنعرض رأيه باختصار في مسألة اتباع المذاهب، لعل شبابنا يدرك أننا لسنا مجرد "عواجيز" لا نريد أن نتعب أنفسنا في معرفة الأدلة، ولكننا أفنينا أعمارنا في القيام ببعض فروض الكفاية التي تعينت علينا، لأن غيرنا يقوم عنا بالفرض الكفائي المتعلق بتحصيل العلم الشرعي.

          إذا بلغ المرء درجة الاجتهاد فلا يجوز له إلا أن يجتهد لنفسه فيما يعرض له من مواقف، أما من لم يبلغ درجة الاجتهاد فعليه أن يتبع مذهبا من المذاهب التي لقيت قبولا من الأمة .. إلى هنا والكلام واضح، ولكن السؤال هو: هل يجوز له أن يغير المذهب، أو أن يتبع في بعض المسائل رأي إمام غير الذي التزم بمذهبه؟ .. الإجابة تحتاج لبعض التفصيل.

          من حصل قسطا من العلم الشرعي يجعله من أهل النظر والاستدلال (وهي الرتبة الثالثة من مراتب الاجتهاد الخمسة، مرتبة المرجح) فهو يعرف الأدلة التفصيلية للمذهب الذي التزمه، وقادر على إدراك الراجح من المرجوح، ويمتلك أدوات الموازنة بين الآراء التي يقع عليها في المذاهب المختلفة، فهذا ينبغي عليه أن يتبع الحق دون سواه، فإذا تبين له في بعض المسائل أن الحق في غير المذهب الذي التزمه وجب عليه أن يتبع الرأي الذي لاح الحق فيه.

          أما "العامي"، المسلم الذي لا علم له بمناهج الاستنباط وطرق الاستدلال، فإنه عاجز عن معرفة الدليل، أو الموازنة بين الأدلة، وهو في الواقع يتبع الرجال، ولا تثريب عليه في ذلك، ومذهبه في الحقيقة هو مذهب مفتيه، وهو لا ينتقل من مذهب إلى آخر لأنه حقق ونظر، ولكن لأنه غير المفتي، فإن كان هذا التغيير نتيجة أنه وجد عالما آخر أعلم (ولو في هذه المسألة بالذات)، أو أتقى وأورع، فقرر اتباع الثاني بدلا من الأول، فإن هذا يجوز له، وأحيانا يكون واجبا عليه، أما إن كان الانتقال من مذهب لآخر لمجرد تحقيق مصلحة أو اتباع هوى فإن هذا لا يسوغ، هذا عبث بالشريعة نفسها، كمن يطلب الشفعة بالجوار أخذا من مذهب أبي حنيفة، فإذا أراد هو أن يبيع وطلبت منه الشفعة رفض بحجة أنها غير ثابتة بالنص، أو ذلك الذي إذا رأى شخصا يبغضه يلعب الشطرنج أو يسمع الموسيقى شنع عليه، فإذا فعلها أحد أصدقائه عاد وقال أن هذه المسائل موضع خلاف ولا يجوز فيها الأمر والنهي.

          باختصار يقول ابن تيمية أن من بلغ رتبة الاجتهاد استنبط الأحكام من أدلتها، ومن كان له علم لا يكفي للاستنباط فلا يستنبط، ولكن يعمل بما ترجح لديه من آراء المجتهدين، ومن لم يصل إلى معرفة الأدلة والترجيح بينها فليتبع عالما يثق في علمه وورعه، وهو في ذلك مأجور إن شاء الله.

شارك المقال