وكمان بلاها سنة

منذ 6 سنة | 1780 مشاهدات

لم يكن الدكتور سعد الدين الهلالي هو أول من حاول التهوين من شأن كتب الحديث الصحاح على أساس أنها دونت بعد وفاة الرسول (ص) بقرنين، لكني أظن أنه صاحب براءة اختراع فكرة أن هذه الكتب ليست هي أصلا التي تحوي السنة، وإهمالها لا يعني إهمالا للسنة، محاولا أن يعطيك الانطباع بأن ما فيها هو ما رواه الرسول في الغرف المغلقة لبعض صفوته، وحاشاه (ص) أن يكون اختص بعضهم بشيء لم يعلنه للجميع، وإنما هو ينطق بالحكم أو الذكر أو النصيحة والأدب .. إلخ في مناسبتها، ثم يوصي الصحابة بأن يخبر الحاضر منهم الغائب.

          لكن موضوعنا هنا هو تفنيد تلك الفكرة التي شاعت لدرجة أن الكثيرين يظنونها حقيقة، وهي أن حديث رسول الله (ص) ظل محفوظا في الصدور وحدها قرنين كاملين، حتى جاء البخاري بكتابه الصحيح، ثم تبعه الآخرون .. هذه فكرة أبعد ما تكون عن الحقيقة.

          صحيح أن الرسول (ص) قد نهى في بداية الدعوة عن كتابة الحديث حتى لا يختلط بالقرآن، لكنه عاد بعد ذلك وسمح لبعض الصحابة بكتابة الحديث، غالبا بعد أن زاد عدد حفظة القرآن وكتبته زيادة كبيرة، لكن كل من كتب الحديث من الصحابة إنما كان يكتبه لنفسه، كي يراجع النصوص التي سمعها ويتثبت منها عند الحاجة، فهذه النصوص هي مصدر من مصادر التشريع، ثم سار التابعين على نفس النهج، يكتبون لأنفسهم لكنهم لا ينشرون كتبهم حتى لا تختلط بالقرآن.

          وبعض التابعين كان يلقي دروسه في الحديث قراءة مما دونه، زيادة في الحيطة والتثبت من صحة النقل، أما المستمعين فكان الشائع بين أغلبهم أن يدونوا في المجلس ما يسمعون، بعضهم يدونه ليحتفظ به، والبعض يدون على ألواح الإردواز حتى يحفظوه على مهل، ثم يمحون اللوح لإعادة استخدامه، وفي الأجيال التالية زادت المدونات الشخصية زيادة كبيرة، حتى يروى أن الإمام أحمد بن حنبل كان لديه أحمال ضخمة من الأوراق التي دون عليها سماعاته، ومنها انتخب مسنده .. باختصار: لم يكن الرواة يعتمدون على مجرد الحفظ في الصدور وحدها قرنين كاملين كما يحاولون أن يوهموننا.

          بالفعل كان محمد بن إسماعيل البخاري هو أول من "صنف" كتابا في الحديث الصحيح مبوبا على أسس منهجية واضحة وأخرجه سنة 216 هجرية، لكن هذا لا يعني أنه أول من كتب الحديث بهدف النشر والتداول، فقد عدد العلماء 24 كتابا على الأقل كتبت كلها قبل صحيح البخاري، لعل أشهرها كتاب عبد الرزاق الذي كتبه سنة 100 هجرية بأمر خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز، ومسند أبي حنيفة (توفي 150 ه) وموطأ مالك (توفي 172 ه) ومسند الإمام الشافعي (توفي 204 ه).

          والمدة الزمنية التي تفصل مصنفي هذ الكتب المعتمدة عن زمن الصحابة ليست كبيرة كما يحاولون إيهامنا، فقد عاصر عدد كبير من الصحابة الفتنة الكبرى بين علي ومعاوية (رض)، والتي انتهت عام 40 ه، ثم ترددت أسماء عدد لا بأس به من الصحابة في الأحداث التي تلت وفاة معاوية سنة 60 ه، والإمام مالك تلقى علمه على كبار التابعين، فلم يكن بينه وبين الصحابي الذي يروي عنه إلا رجل واحد، أما أبو حنيفة والشافعي فتتلمذوا على تابعي التابعين، أي أن بين الواحد منهما والصحابي رجلين فقط، فإذا جئنا للبخاري وجدنا ثلاثة أو أربعة رجال فقط يفصلونه عن جيل الصحابة، والمصنفين لم يكونوا يكتبون كل مايسمعون، ولا حتى جزء معقول منه، بل كانوا يمحصون ويمحصون لدرجة أن البخاري أخرج في صحيحه أكثر قليلا من 2000 حديث من بين 600 ألف سمعها.

          وعلماء الأمة لم يتلقوا هذه الكتب التي اشتهرت لمجرد أنها من تصنيف علماء كبار مشهورين، بل عكف رجال أفذاذ لأجيال عديدة متوالية على مراجعة كل ما كتب وتتبع سيرة كل رجل ورد اسمه في أسانيدها، ونقد متونها، ومقابلتها بالآيات والأحاديث المتواترة، حتى اتضح أن هذه الكتب المعتمدة هي أجدر ما كتب بالثقة في صحة ما فيها، ونحن لا نعطي لأي منها أية قداسة، فكلهم رجال غير معصومين، لكن احتمال وجود خطأ لم يكتشف في أي منها بعد كل هذه المراجعة والنقد والتمحيص هو احتمال شديد الضآلة، يمكن التغاضي عنه بأكثر مما يتغاضى علماء الطبيعة عن دقة علومهم، فنحن نعرف أنه في الفيزياء مثلا لا يقطع أي عالم بصحة القوانين التي نستخدمها، لكنه سيقول لك أنها تملك أعلى درجات الاحتمال لأن تكون صحيحة، هذا هو المنهج العلمي، فلماذا نحن فقط يطلب منا لبن العصفور؟ .. اليقين بصحة النصوص هو فقط لآيات الكتاب وللمتواتر من الأحاديث، أما باقي الأحاديث الصحيحة فما نقوله هو أن أحدا لا يملك مبررا للشك في نسبتها إلى رسول الله (ص)، وهذا يكفي للاعتماد عليها في العمل، إذا استخدمنا أدق معايير المنهج العلمي.

           

شارك المقال