منذ 7 سنة | 3408 مشاهدات
كي نجيب على السؤال: هل يعطي التراكم المعرفي ميزة لعلمائنا المعاصرين على علماء السلف ينبغي لنا أن نتعرف أولا على طبيعة منهج البحث في القضايا الشرعية.
لقد أبدع علماؤنا منهجا للبحث جديدا في عصرهم، بعد أن أعرضوا عن المنهج الذي كان سائدا وقتها، وهو المنهج اليوناني الذي يعتمد على منطق أرسطو الصوري، ومنهجنا هذا الذي بدأت صياغته على يد الإمام الشافعي (رض) في القرن الثاني الهجري هو نفسه الذي تبناه علماء عصر النهضة الأوروبي، ليضعوا أسس منهج البحث العلمي الحديث، الذي بدونه لم تكن البشرية لتدخل عصر العلم.
يقول لنا منهج البحث العلمي الحديث أن البحث العلمي لا يبدا إلا من رصد الوقائع التي تتكون منها الظاهرة موضوع البحث والتثبت من صحتها، وبعدها تأتي مرحلة فهم هذه الوقائع وأثر كل منها في الظاهرة والربط بينها، وهي التي يطلق عليها فلاسفة العلم "التفسير"، ثم يليها مرحلة صياغة النظريات والقوانين التي تحكم الظاهرة، والمرحلة الأخيرة، وهي الهدف النهائي للبحث العلمي، هي التحكم في الواقع باستخدام هذه النظريات والقوانين.
هذه بذاتها وحذافيرها هي مراحل البحث في العلوم الشرعية .. فهو منهجنا الذي أبدعناه.
بما أن موضوع العلوم الشرعية هو معرفة مراد الله منا، ما أوجبه وما حرمه وما أباحه، فإن الوقائع التي يبدأ منها البحث تنحصر في ما تلقيناه عن الله سبحانه وتعالى، ولا علاقة للأمر بما نريده نحن أو نتمنى أن يكون صحيحا، والطريقة الوحيدة للتلقي عن الله هي الوحي – أو هكذا يؤمن كل المسلمين – وقد انقطع الوحي بعد رسول الله (ص)، ولم يعد لدينا من وقائع نبدأ منها البحث سوى النصوص .. آيات الكتاب ومرويات السنة الصحيحة.
وفهم هذه النصوص يبدأ أولا: من معرفة الطريقة التي استخدم بها القرآن نفسه العبارات والألفاظ في المواضع المختلفة، وثانيا: الطريقة التي بين بها الرسول (ص) الآيات وطبقها، وثالثا: ما أجمع الصحابة على أنه مراد الله، ثم رابعا: إذا لم نجد شيئا مما سبق فنلجأ لإعمال العقل المستقيم مستندين إلى الطريقة التي استخدم بها العرب هذه العبارات والألفاظ في التخاطب.
وبعد الفهم يأتي الإستنباط ، وهي المرحلة المقابلة لمرحلة صياغة النظريات والقوانين، وفيها يقوم الفقهاء الراسخون بالعمل على التعرف على المقاصد العليا للشريعة، حتى تكون الأحكام كلها محققة لهذه المقاصد، ويعملون على وضع القواعد العامة التي لا يجب الخروج عليها، لتضافر النصوص على تقريرها، وفي النهاية يستنبطون أحكاما للمسائل المختلفة التي قد تعرض للناس في حياتهم.
والمرحلة النهائية التي تقابل مرحلة التحكم في الواقع هي مرحلة الإفتاء ، أي تنزيل الأحكام المستنبطة على الأمور المحددة التي تواجه أناس بذاتهم في ظروف معينة وتحديد الحكم المناسب لكل حالة.
في المقالات القادمة سنحاول بإذن الله الكلام في كل مرحلة من هذه المراحل بما نظن أنه يقربها من فهم المثقف المسلم غير المتخصص، لكي تتضح لنا المساحات القليلة التي يمكن أن يكون لمرور الزمن وتراكم المعرفة أثر فيها، وكيف أن هذا الأثر قد يكون إيجابيا أحيانا، لكنه قد يكون سلبيا يجب الحذر منه في أحيان أخرى .. والأهم هو أن ندرك أنه في كل الأصول الاعتقادية أو الفقهية لا أثر للتراكم المعرفي على الإطلاق، وكل ما يملكه الفقيه المعاصر هو أن يسير على درب السلف حتى وإن اختلف معهم، فعقائدهم ومناهجهم مستمدة من مصدر لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه (وأرجو أن تلاحظ أنني أتكلم عن العقائد والمناهج، لا عن الفروع والتفاصيل)، ولله الحمد من قبل ومن بعد.