منذ 7 سنة | 3609 مشاهدات
شاب متعالم – لا أجد داعيا لذكر اسمه – خصصوا له برنامجا تليفزيونيا ليجدد الفكر الإسلامي، بينما هو لا يحفظ آيات القرآن ويتلوها من ورقة، ويخطئ مع ذلك في تلاوتها، يطالب بالتخلص من تراثنا الفقهي وإلقائه في أقرب صندوق للقمامة، بزعم أن الصحيح فيه لا يتجاوز 5%، وأننا الآن أقدر من كل علماء السلف على الاجتهاد وفهم النصوص، كيف ذلك؟ .. قال لأننا نتفوق عليهم بتراكم معرفي تحقق خلال أكثر من 1300 سنة .. لن أناقش هنا مدى أهلية هذا المغرور للاستفادة من التراكم إن كان ما يقوله صحيحا، فمن الواضح أنه أضعف حتى من أن يتمكن من مجرد فهم كتب التراث، ناهيك أن تكون له القدرة على نقدها، لكن يبدولي أن حكاية التراكم المعرفي هذه ليست من بنات أفكاره، وستعلو نغمتها وتتردد كثيرا عما قريب كمقدمة لتبرير الاستغناء عن تراثنا الفقهي والعمل على إنتاج أحكام فقهية جديدة "تفصيل"، إستنادا إلى عدم صلاحية فقهنا الموروث من جهة، وعلى أن المعاصرين لهم أفضلية على السابقين بسبب استفادتهم من التراكم المعرفي، وقد سمعنا بالفعل إرهاصات ذلك في الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني.
طبيعي أننا في حاجة إلى أن يقوم المجتهدون المعاصرون بتقديم اجتهادات حديثة في المسائل المستجدة، فهذه فعلا ليست موجودة في كتب السلف، ببساطة لأنهم لم يعرفوها، لكن هذا لا علاقة له بفكرة أننا أفضل منهم بفضل التراكم المعرفي، فالتراكم المعرفي لا يعمل في العلوم الشرعية بنفس الطريقة التي يعمل بها في العلوم الطبيعية.
لا شك أن للمعاصرين أفضلية على السابقين في مجال العلوم الطبيعية، كالفيزياء والكيمياء والأحياء وغيرها، فهذه العلوم تبدأ من رصد الوقائع الموجودة في الطبيعة، ومع الزمن تزداد كمية الوقائع المرصودة فيزداد فهم العلماء للظواهر التي يدرسونها، ومن جهة أخرى تتحسن أجهزة الرصد، فتزداد دقة معرفتنا بما كنا نعرفه من قبل، ونتمكن من رصد أشياء أخرى لم نكن نعرف بوجودها أصلا، فعندما اخترعنا التلسكوب اتضح لنا أن الأرض ليست هي مركز الكون كما كان يظن الأقدمون، وتحسنت تلسكوباتنا فعرفنا أن الشمس ليست إلا نجما في مجرة، ثم أمكننا بعدها رصد مجرات أخرى، حتى أصبحنا نرصد نجوما تبعد عنا بحوالي 13 مليار سنة ضوئية، فعرفنا التفاعلات النجمية التي كانت تتم بعد مليار واحد من السنين من اللحظة التي نظن أنها كانت لحظة بدء خلقه (طبقا لنظرية الانفجار الكبير)، وبنينا معجلات للجسيمات الذرية فأمكن لنا إيجاد الظروف التي كانت تعيشها المادة في الثوان الأولى من عمر الكون .. بالتأكيد يتفوق علماء الفيزياء المعاصرون على كل من سبقهم، وبالمثل مكننا الميكروسكوب من اكتشلف الميكروبات التي تسبب الأمراض، ورؤية الخلايا الحية وبعض مكوناتها، وغير ذلك مما جعل قدرة الأطباء وعلماء الأحياء المعاصرون أفضل كثيرا من سابقيهم، ولا ننسى دور الكومبيوتر في كل العلوم التي تعتمد على النماذج الرياضية والتحليل الإحصائي .. لا نجادل في ذلك، لكن هل للتراكم المعرفي ذات الأثر في كل جوانب المعرفة الإنسانية؟ .. هل تمكن أي شاعر إنجليزي من الوصول إلى مستوى "شكسبير" الذي عاش في أوائل عصر النهضة؟ .. وهل هناك فنان تشكيلي معاصر تضارع أعماله أعمال مايكل أنجلو أو ليوناردو دافنشي؟ .. وعندنا ما زال الشعر الجاهلي يقدم لنا أرقى القطع الشعرية العربية .. ربما تقول أن ما ذكرناه هو مسائل ترتبط بالمواهب الفطرية لا بالمعرفة المكتسبة ولذلك لا يؤثر فيها التراكم المعرفي (غير صحيح بالطبع، فهي كلها مزيج من العلم والموهبة، ولو كانت علومها تزداد منفعتها بالتراكم لكنا نحتاج إلى موهبة أقل لنقدم نفس مستوى الانتاج العبقري) .. حسنا، سنخصص المقالات القادمة لبحث مسألة قيمة التراكم المعرفي في مجال فهم النصوص الشرعية والاستنباط منها، وذلك بهدف المساهمة في قطع الطريق على هؤلاء الذين يحاولون استبعاد تراثنا وتلفيق خطاب ديني جديد.