الطبيب وحلاق الصحة

منذ 6 سنة | 2012 مشاهدات


يتكلم العالمانيون كما لو أن كل شخص يعرف القراءة والكتابة يمكنه أن يسرد علينا تأملاته الذاتية في النصوص، ولا يكتفي بأن يسميها اجتهادا، بل يؤكد أن من يخالفها هو جاهل بالإسلام منغلق وظلامي، وإذا قلت: ما هكذا يكون الاجتهاد، وليس لكل أحد أن يجتهد، صاحوا في وجهك: من أنت حتى تحدد من يحق له الاجتهاد، لا كهانة في الإسلام .. نعم لا كهانة في الإسلام، ولكن أيضا لا قول في دين الله بغير علم.

          نحن إذا أردنا لأجسامنا أن تكون سليمة، وأن نتجنب المرض، وأن نشفى منه إذا أصابنا، فإننا نلجأ إلى الأطباء، والواحد منا، إذا كان عاقلا، لا يعالج نفسه إذا ألم به المرض، إنما يلجأ إلى طبيب يثق بعلم وخبرته، والقانون يمنع غير الأطباء من تشخيص المرض ووصف العلاج، أي من ممارسة الطب، ويعاقب من يفعل ذلك ما لم يكن عضوا في نقابة الأطباء، ولم يقل أحد أنهم جعلوا الطب كهنوتا.

          والاجتهاد هو محاولة لمعرفة مراد الله، هو محاولة لوصف الطريق إلى الجنة: ما الذي فرضه الله علينا، وما الذي حرمه، وما الذي سمح لنا فيه أن نفعل أو لا نفعل ما يحلو لنا (المباح)، ودخول الجنة قضية أخطر بكثير من قضية المحافظة على صحة أجسادنا في الدنيا، فكيف يجوز أن نترك لكل من هب ودب الخوض فيها دون أي مؤهلات.

          والطبيب يشترط فيه شرطان، أولهما: أن يكون مؤهلا لممارسة المهنة حاصلا على شهادة في الطب وعضوا في نقابة الأطباء، وثانيهما:  أن يستخدم الوسائل المعترف بها عند الأطباء، فلا يسمح للطبيب، مثلا، أن يفتح المندل ليشخص الداء ويصف الدواء، وهذا هو بالضبط ما يطلب من المجتهد، فمن أراد أن يجتهد برأيه في الدين فعليه أولا أن يحصل على العلم الذي تتحقق له به شروط الاجتهاد، ثم أن عليه ثانيا أن يجتهد طبقا للوسائل والطرق التي يقرها مجتمع العلماء المجتهدين، فلا يجوز للمجتهد، مثلا، أن يقدم تأملاته الشخصية في الموضوع باعتبارها إجتهادا في الشرع.

          إن إصرار هؤلاء العالمانيين على حقهم في استنباط أحكام فقهية لمجرد أنهم قادرون على رص الكلام واستخدام المنطق البسيط يشبه إصرار حلاق الصحة على أنه قادر على إجراء العمليات الجراحية لمجرد إتقانه استخدام المقص والموسى .. وكما نمنع حلاق الصحة من فقح بطن المريض علينا أن نمنع فاقدي شروط الاجتهاد من العبث بعقول المسلمين غير المتخصصين .. نحن لا نمانع في أن يبدي العالمانيون اعتراضهم على أحكام الفقه الإسلامي (كما لا يمكن منعهم من رفض الإسلام نفسه)، لكننا نرفض بشدة أن يزعموا أن كلامهم هو اجتهاد في الإسلام، ليس لأن للإسلام كهنة لا يجوز لغيرهم الاجتهاد، ولكن لأن الاجتهاد عمل علمي منضبط له أصوله، ومن لا يريد أن يتعب نفسه في تعلم هذه الأصول وكيفية تطبيقها فهو حر، لكنه ليس مجتهدا، بل هو شخص يكذب علينا وعلى دين الله.

          سنناقش في الحلقات التالية بإذن الله شروط الاجتهاد التي يفتقر إليها هؤلاء العالمانيون، وكيف أدت ببعضهم لإبداء آراء مضحكة وعجيبة، لنكتشف لماذا هي شروط لا يجوز لمن لم يحصل عليها أن يجتهد، ثم نعرض للطرق المعتمدة في الاجتهاد، أي أصول الفقه، التي لا يمكن الاعتداد بتفكير من لا يلتزم بها، والله المستعان.

شارك المقال