:الحفر طلع مش على الناشف .. مسخرة

منذ 6 سنة | 2492 مشاهدات

طالعتنا الأهرام في صفحتها الأولى يوم الخميس الموافق 2 أكتوبر بخبر عن تقدم العمل في مشروع قناة السويس الجديدة، وأن التفاصيل في صفحتي 6 و 7 في تقرير لبعثة الجريدة إلى موقع العمل .. أرجو أن يقدر القارئ معاناتي في قراءة كل هذا الكم الكبير من الكلام الفارغ ، فأنا أحاول منذ مدة – دون جدوى حتى الآن – معرفة كنه هذا المشروع السري الذي لم تنشر له حتى الآن دراسة واحدة واضحة .. الجملة الوحيدة المفيدة التي وجدتها في التقرير هي أن المخطط العالم سينتهي بعد ستة أشهر، قيلت في السياق دون أن يتوقف الكاتب عندها لثانيتين .. يا للهول .. نبدأ العمل في مشروع تكلفته 60 مليار جنيه وليس عندنا حتى مخطط عام !!!  (يبدأ أي مشروع تنموي بمخطط عام يرتب كل المطلوب عمله وأولوياته، وعلى أساسه يتم عمل دراسة الجدوى الاقتصادية، إذا ثبتت جدوى المشروع يتم عمل المخطط الهيكلي التفصيلي الذي يحدد العمليات المختلفة التي يشملها المشروع وقطع الأراضي التي ستخصص لكل عملية، وبعدها يتم عمل التصميمات التنفيذية والرسومات الهندسية التي بدونها لا يمكن التعاقد مع المقاولين، وطبعا لا يبدأ العمل إلا بعد التعاقد مع المقاولين) .. هذا على أي حال يفسر لنا لماذا لا توجد دراسة واحدة منشورة .. طبعا .. دراسة عن ماذا والمخطط العام لم ينته بعد .. كما يفسر كل هذا الكلام الإنشائي العائم الذي لا تفهم منه أي تفاصيل محددة، مثل: "مصر ستتحول إلى مركز إقتصادي ولوجستي عالمي صناعي وتجاري بعد إنشاء هذا المشروع العملاق كما ستؤثر في التجارة العالمية من خلال خلق كيانات صناعية ولوجستية جديدة بمنطقة المشروع ستعتمد على أنشطة القيمة المضافة والصناعات التكميلية وإعادة التصدير للداخل والخارج" .. أي والله هذا الكلام مكتوب في الأهرام عن مشروع لم ينته مخططه العام بعد، وبجوار الكلام صورة لخريطة المشروع .. طبعا وضعها المحرر لتزيين الصفحة، ولم يتوقع أن متطفلا مثلي سيأتي بعدسة مكبرة ليبحث في هذه الخريطة عن المناطق التي يمكن أن تقام فيها تلك الأنشطة التي يتحدثون عنها.. لا يوجد في هذه الخريطة إلا مناطق إسكان سياحي وموانئ لليخوت (مع أنه لا توجد دراسة واحدة عن السياحة في مصر قالت أن قناة السويس هي أحد نقاط الجذب السياحي) ، ومنطقة صغيرة جدا كتب عليها :"خدمات لوجستية" دون أن يشرح شيئا عن طبيعتها أو نوعها أو مشتملاتها، هذا يفترض تفسير من إثنين، الأول: هو أن الذي رسم الخريطة يعتبر أن كلمة "خدمات لوجستية" هي من الكلمات الدارجة في كلام المصريين والكل يعرف معناها ولا تحتاج لمزيد بيان، أو الثاني: هو أنه هو شخصيا لا يعرف معنى خدمات لوجستية لكنه سمعها أيام كان الحديث يدور حول مشروع الرئيس مرسي، ولا يعرف أن المنطقة الصغيرة الذي كتب عليها خدمات لوجستية لا يمكنها أن تكون أكثر من مركز خدمة شاحنات ثقيلة على طريق نقل سريع، لا مركزا للخدمات اللوجستية العالمية الذي كان يخطط له فريق الرئيس مرسي.

            على أي حال أصبح واضحا أن أي كلام قيل أو سيقال عن مكونات المشروع هو مجرد هراء إعلامي، فالمخطط مازال أمامه ستة أشهر حتى ينتهي، وهذا المخطط هو أول تصور متكامل للمشروع، وأي كلام يقال قبل الإنتهاء منه لا يعدو إلا أن يكون مواضيع إنشائية ضعيفة لا تعتمد على أي دراسة جادة.

            حسنا .. ذهبت البعثة لتتابع العمل على أرض الواقع لتثبت – حسب قول أعضائها – أن هناك إنجازا فعليا وليس مجرد شو إعلامي .. ومع ذلك لم تقدم في وسط سيل الصور التي عرضتها صورة واحدة من زاوية عريضة أو لقطة جوية من تلك التي تلتقطها طائرات القوات المسلحة يوميا للقناة .. هذا يجعل مائة فأر يلعبون في عبك .. ولا صورة واحدة شاملة ؟؟!! مجرد صورتين من زوايا ضيقة لبضعة سيارات نقل ولودر .. ثم يتساءلون لم نتشكك في جدية العمل؟

***************

            دعك من كل ما سبق، فقد إعتدنا هذه الثرثرة الفارغة لملأ صفحات بلا مضمون عن كل ما يريدون تلميعه، ولكن المسخرة الحقيقية تجدها في صورة الصفحة الأولى لشاب "يطرطش" بالمياه في سعادة غامرة كأنه يلهو على البحر أو في حمام سباحة وتحتها عنوان "فرحة أحد العاملين بظهور المياه"، وكل هذا تحت مانشيت بالخط العريض "ظهور المياه بأرض المشروع يختصر زمن الحفر الجاف" .. يا خبر أسود .. طيب العامل الغلبان جاهل ولا يعرف أبعاد هذه المشكلة، لكن هذا الكاتب الذي كتب العنوان والمانشيت بعد زيارة الموقع واللقاء بالمديرين والمهندسين والمقاولين واللواءات .. الخ لا يعرف أن ظهور المياه الجوفية أثناء الحفر هو مشكلة كبيرة وربما كانت مصيبة حقيقية ؟؟!!!!!

كيف تظهر المياه الجوفية على عمق 9 أمتار (من 24 مترا مطلوب حفرهم) فجأة في مشروع كان المفروض انه حفر على الناشف؟ .. إن أي مهندس صغير يقوم بحفر بعمق 3 أمتار لأساسات لعمارة صغيرة يستحق عقابا شديدا إذا فوجئ بظهور المياه الجوفية على عمق 2.5 متر، فمنسوب المياه الجوفية مكتوب في تقرير التربة، ولا بد ان يكون قد أدخلها في حساباته لتكلفة الحفر وتقدير قيمة العقد، وأعد العدة للتعامل معها عندما يصل إليها.

إن مجرد الحفر لعمق نصف متر فقط في المياه الجوفية هو مشكلة ترفع التكلفة إرتفاعا كبيرا ، فما بالك بالحفر 15 مترا في المياه الجوفية ؟ .. هل بدأ العمل في هذا المشروع العملاق بدون عمل جسات لاختبار التربة وتحليل العينات وكتابة تقرير عن طبقات الأرض ؟ يبدو فعلا أن هذا هو ما حدث .. لو فعلها مهندس شاب يبني عمارة صغيرة لعوقب عقابا شديدا (خطأ مثل هذا أدى إلى فصل أحد زملائي من العمل منذ 30 عاما).

ثم ما هذا العنوان شديد الغباء " ظهور المياه يختصر زمن الحفر الجاف " .. ما هذا الهراء .. تصور لو اننا في رحلة بالسيارة لمسافة مائة كيلو ، ثم فوجئنا بأن الطريق المرصوف ينتهي بعد 20 كيلو فقط ، فبدلا من أن يستاء الركاب من طول المسافة التي سيقطعونها على الجزء غير المريح ويتهمون السائق بتوريطهم في الرحلة، يقول واحد من المسافرين بسعادة أن "ظهور التراب يختصر زمن السير على الأسفلت" .. الواقع أن ظهور المياه معناه أن الحفر طلع مش على الناشف، فماذا أنتم فاعلون؟

حتى يفهم القارئ غير المتخصص هذه المشكلة نذكره بأن ثمن اللودر او البلدوزر المستخدم في الحفر الجاف يدور حول رقم المليون أو المليوني جنيه حسب حجمه وجهة إنتاجه، أما ثمن الكراكة التي يمكنها الحفر تحت الماء بكفاءة فيبدأ ثمنها من حوالي 150 مليون وطالع (مائة وخمسون مليون جنيه) لذلك لا تجد شركة مصرية واحدة تمتلك كراكة، وهئية قناة السويس نفسها تمتلك 12 كراكة تعمل كلها في تطهير المجرى الملاحي طوال العام .. مجرد التطهير والصيانة يحتاج 12 كراكة .. كم نحتاج لحفر المجرى من البداية؟

ويفاقم من الوضع أنك لا تجد كراكات جاهزة (بضاعة حاضرة) في مخازن شركات التصنيع لتطلبها وتتسلمها فورا، فالتسليم يكون عادة بعد سنة أو 18 شهرا .. في مشروع كهذا غير مسموح بأن تفاجئ بأنك لم تعد تحفر على الناشف وأصبحت فجأة في حاجة لكراكات، ليس هذا خبرا مفرحا بالمرة.

وهل حسب أحد الزيادة في التكلفة نتيجة ظهور المياه؟ ليس فقط بسبب أن الكراكات أغلى 150 مرة من اللوادر ولكن أيضا لأن نقل ناتج الحفر المبتل أصعب من نقل الرمال الجافة .. أستطيع أن أؤكد بالحس الهندسي – فليس عندي المعطيات لعمل الحسابات الدقيقة – أنني لو كنت أدير هذا المشروع لاستعوضت ربي في تكلفة ما تم من حفر (ومن المؤكد أنه ليس كثيرا وإلا لتباهوا علينا بصورة) ولعملت مسحا للتربة في مناطق أبعد عن القناة ، فواضح أن هذه المياه الجوفية هي رشح الممر القديم ومن المؤكد أننا إذا أبعدنا الفرعة الجديدة لمسافة أكبر فسنصل إلى منطقة يكون الحفر فيها كله "على الناشف"، أو على الأقل تكون كمية الحفر تحت المياه نادرة، وليس الثلثين كما هو واضح من مستوى الماء في المجرى الحالى .. فالزيادة في التكلفة نتيجة الحفر بالكراكات ستتجاوز أضعافا مضاعفة لتكلفة كل ما حفرناه حتى الآن .. يبدو هذا قرارا منطقيا لا مفر منه لأي مدير مشروع عاقل .. المشكلة أن هذا القرار يتطلب الإعتراف بأن المشروع بدأ بداية مرتجلة وأن هذا الذي قال أنه مجرد حفر على الناشف كان يثرثر بما لا يعلم، فمن يستطيع أن بنظر للغول ويقول له عينك حمراء؟.

شارك المقال