منذ 3 اسابيع | 2655 مشاهدات
تعتمد المؤامرة (راجع مقال "المؤامرة على غزة .." على http://www.assemelfouly.com/seriespost/411) على ركيزتين: الأولى هي أن تكلفة إعادة الإعمار مرتفعة لدرجة لن يتحملها إلا كبار المانحين الخليجيين، والثانية هي أن من حق المانحين، والحال كذلك، أن يطالبوا بتدابير تضمن عدم ذهاب أموالهم هباءا، فالخطة المصرية تقدر التكلفة بحوالي 54 مليار دولار، والخليجيون يبدون إستعدادهم لدفعها لكنهم يتخوفون من أن تقوم إسرائيل بإعادة تدمير ما يتم تعميره .. التفكير المستقيم للناس الطبيعيين سيقترح مطالبة المجتمع الدولي بإتخاذ ما يلزم لمنع إسرائيل من تكرار إجرامها مرة أخرى (ما دام العالم يعترف بأن هذا التدمير جريمة حرب)، أو إلزام إسرائيل بدفع قيمة ما تدمره خلال عدوانها على أراضي تطالبها القرارات الأممية أصلا بعدم التواجد فيها، أو أي تدابير من هذا النوع، لكن عقول صهاينة العرب تعمل بطريقة مختلفة، فهي تريد تدابير تضمن ألا يكون للفلسطينيين أي قدرة على التصدي للجيش الصهيوني، هذا في نظرهم هو السبيل الوحيد لكي لا "تضطر" إسرائيل لتدمير غزة مرة أخرى، فكان كل ما خطر ببالهم هو إشتراط نزع سلاح المقاومة وإخراج قيادتها من القطاع وتسليمه لأبو مازن، ولا نحتاج لذكاء خارق كي ندرك أنهم عندما يتولون تخطيط وإدارة عمليات التعمير فإن مخططهم سينطوي على تدمير الأنفاق ومصانع السلاح وضمان عدم قدرة سكان القطاع على إعادة إنشائها .. ثم يزعمون أنك إذا رفضت خطتهم هذه فإنك إذن تحكم على أهل غزة بالبقاء في العراء بقية أعمارهم .. لا أظن أن هناك وسيلة لإقناعهم بسخافة هذه الطريقة في التفكير (مشيها سخافة، فهي أرحم من خيانة).
الحل الذي نقترحه لإفشال هذه المؤامرة يعتمد على نجاح الفلسطينيين في إقامة حكومتهم في المنفى التي ستعلن مسئوليتها عن إعادة الإعمار بالجهود الذاتية، والتي ستنقل مقرها إلى القطاع بمجرد أن تسمح لها الظروف، وهو يتحرك على محورين، الأول هو ضغط التكلفة حتى نصل لمستوى يمكن تدبيره بوسائل بعيدة عن هؤلاء المانحين وتعفينا من الإنصياع لشروطهم، والمحور الثاني هو تنظيم إجراءات تدبير التمويل (بعد أن وصل إلى حدود معقولة) بالإستعانة بالشعوب المتعاطفة والحكومات الداعمة للفلسطينيين، إذا قدر الله النجاح لهذه الخطة (أو أي خطة أخرى تحقق هدف الإستغناء عن "كرم" المانحين، ولا تعطيهم فرصة لفرض شروطهم) فسيتمكن أهل غزة من السيطرة على إقليمهم والحفاظ على قدرات المقاومة، وربما زيادتها في المستقبل.
لماذا نعتقد أن هذه ال 54 مليار دولار تزيد بكثير عن ما تحتاجه فعلا عمليات الإعمار؟ .. إذا إستبعدنا الممارسات الفجة التي تضيف بكل وقاحة مبالغ ليس لها مبرر فني (وليس لدي سبب لإستبعادها) فإن المخططين يلجأون إلى المبالغة في تقدير المخاطر والظروف غير المتوقعة ليزيدوا بند مخصصات الطوارئ عن حجمه الطبيعي، وثانيا فإنهم يبنون خططهم على التنفيذ بمواصفات مرتفعة، وهذا يمثل تكلفة حقيقية ولكننا لا نحتاج لها إذا خفضنا المواصفات للمستوى المتوسط، وثالثا فإن المخطط في ظروف الإستعجال لا يصل للتكلفة من خلال حساب كميات المواد والعمالة وأثمانها، لكنه يستخدم تكاليف مشروعات مشابهة تم تنفيذها من واقع حساباتها الختامية، ونحن نعلم أن قيم مشروعات التعمير – خاصة في مصر – تحتوي على مبالغ تذهب للسبوبة، و"السبوبة" هي مصطلح نطلقه في مصر على ما يحصل عليه المسؤلون من "تحت الطاولة"، وإذا رجعت إلى ما قاله المقاول الفنان محمد علي لوجدت أن السبوبة قد تصل أو تزيد على ربع قيمة العقد .. لهذا، ولغيره، نعتقد أن مخططين مخلصين يمكنهم بعقلانية أن يضعوا مخصصات أقل الطوارئ، وأن يقتصروا على مواصفات متوسطة (ولا نقول إقتصادية)، وأن يعتمدوا على معدلات الإستهلاك الفعلي من المواد والعمالة والمعدات وليس على قيم العقود التي تحتوي على السبوبة، فتنخفض تكلفة إعادالإعمار إلى النصف تقريبا .. ما زال هذا مبلغا كبيرا، لكن الإبداع الهندسي، الذي يعتمد على إعادة تدوير الأنقاض وعلى تكنولوجيات غير تقليدية للبناء، سيمكنه أن يقدم تخفيضات أخرى لا يستهان بها.
غالبا ما تلجأ الحسابات التقليدية التي تجريها شركات المقاولات لإعتبار أن المنشآت المصابة هي كلها أنقاض يجب إزالتها ثم تنظيف المنطقة من المخلفات، وهي عملية عالية التكلفة، لكن تجارب لشعوب عديدة عانت من تدمير واسع النطاق – بما فيهم تجارب قطاع غزة في مرات سابقة – كانت تبدأ بحصر المنشآت المدمرة جزئيا والعمل على ترميمها أولا (أحيانا يكون المتبقي من المبنى أقل من 50 %، لكن هؤلاء الذين يتعبون في جمع الأموال لا يستسهلون)، بالإضافة إلى إستخلاص بعض مكونات المباني المدمرة، منها ما يكون صالحا لإعادة الإستخدام ومنها ما يحتاج لبعض الإصلاح، لكن كله يؤدي لخفض التكلفة) .. هذا يتطلب عملا دؤوبا ومملا تفضل شركات المقاولات تجنبه لأنها لن تجني من وراءه أرباحا تذكر، لكنه في الواقع يساهم مساهمة كبيرة في خفض التكلفة، سواء بالإبقاء على الأجزاء غير المدمرة من المباني أو بإستخدام مكونات لا تتكلف إلا جمعها وتنظيفها وتخزينها .. لا يقبل على هذه الممارسة إلا إدارة مخلصة متجردة لا تعمل بهدف الربح.
أما التكنولوجيا غير التقليدية فهناك تجارب مصرية عديدة، أشرف على بعضها كاتب هذه السطور، إستخدمنا فيها طوبة من خلطة من الرمال والطفلة ونسبة ضئيلة من الأسمنت وتم تسويتها تحت أشعة الشمس، وأمكننا بناء مساكن من ثلاثة طوابق بطريقة البناء القديمة بالقباب والقبوات وبدون إستخدام خرسانة مسلحة ولا شدات خشبية (وهي الطريقة التي اشتهرت باسم الراحل العظيم حسن فتحي)، وانخفضت التكلفة إلى النصف تقريبا، ثم تم إنتاج طوبة أفضل منها في معامل معهد بحوث البناء المصري بإستخدام تراب الأسمنت (وهو من عوادم صناعة الأسمنت التي يتم التخلص منها)، وأثبتت التجارب المعملية أن هذه الطوبة تتحمل ضعف ما تتحمله الطوبة الطفلية، وأجرى واحد من مهندسينا المتميزين (الدكتور محمد سامح هلال) حسابات تنفيذ مبنى من ستة أدوار بطريقة حسن فتحي، لكننا للأسف لم نتمكن من تنفيذ مبنى تجريبي لإختبار واقعية التصميم والحسابات .. هذه مجرد نماذج لتجارب شاركت فيها، وهناك تجارب أخرى معروفة في الهند والصين وأمريكا اللاتينية، كثير منها يعتمد على مشاركة السكان بعد قليل من التدريب (وهو نفس ما قام به حسن فتحي في بناء قرية القرنة في صعيد مصر)، وكثير من هذه التجارب لم يقتصر على خفض تكلفة المباني بل ساهم أيضا في خفض تكلفة المرافق، والعديد منها موثق في تقارير حكومية وتم تحت رعاية مؤسسات أممية وقدمت بشأنه رسائل أكاديمية وأوراق بحثية في مؤتمرات دولية، فالجهاز الوطني لإعادة تعمير غزة لن يبدأ بإذن الله من فراغ.
تشير حساباتنا الأولية إلى أن التكلفة قد تكون في حدود 12 مليار دولار، قد تزيد أو تقل، وإذا وضعنا في الإعتبار أن العملية ستستغرق 7-10 سنوات فإن الدفعات السنوية ستكون بإذن الله في حدود ما يمكن جمعه من التبرعات والمنح الدولية.
من المهم أن يبدأ فورا فريق فني متخصص في جمع المعلومات ووضع المخططات وتقدير التكلفة وإعلانها، فذلك يقطع الطريق على الخطط العربية غير البريئة، ويستخدم كأداة للرد على الآراء الشاذة للرئيس الأمريكي الذي يروج بصفاقة لفكرة إستحالة إعادة إعمار غزة .. بالإضافة إلى أن ترويج هذه الدراسة كبداية لحملة جمع التبرعات سيعطي مادة جيدة للحركات الشعبية المؤيدة للحق الفلسطيني تدفع بها الدعاية الخبيثة التي تدعي أن التهجير هو من باب الشفقة على أهل غزة، والله غالب على أمره.