متى كانت القدس يهودية؟

منذ 2 اسابيع | 87 مشاهدات

يظن معظم المسلمين أن للقدس في شريعة موسى (ع) ما لمكة المكرمة من حرمة وقداسة في شريعة محمد (ص)، وذلك من شدة الصخب الذي تثيره الدعاية الصهيونية عن أهمية القدس لطقوسهم وشعائرهم، وأنها قلب اليهودية، ولا بد أن تكون عاصمتهم الأبدية .. إلخ، ولا شك أنه مما ساعد على إبتلاع المسلمين للفكرة معرفتهم بما للمسجد الأقصى من حرمة تأسست منذ آدم (ع)، لذلك لا بد أنك ستتعجب إذا علمت أن القدس لم تكن لها أي مكانة من أي نوع في تعاليم موسى (ع)، بل إنها لم تذكر في الأسفار الخمسة المنسوبة له إلا مرة واحدة، ولم يكن هذا في أي سياق متعلق بالمناسك أو العبادات أو أي موضوع ديني من أي نوع .. مجرد حديث عابر في سياق رواية سيرة إبراهيم (ع).

         يروي سفر التكوين أن إبراهيم (ع) خاض حربا ليفك أسر لوط (ع) وغنم منها غنائم كثيرة، وأثناء عودته مر بمدينة أورشليم (القدس)، التي كانت مدينة يبوسية (من قبائل العرب)، ووجد فيها معبدا مخصصا لعبادة الإله العلي (ءل عليون)، وإعترف إبراهيم بصحة هذه العبادة وقدم للمعبد عشر الغنائم، وإلتقى لقاءا وديا بالكاهن الأعلى الذي يسميه السفر "ملكي صادق"، ثم إنصرف إبراهيم إلى حيث كان يقيم على بعد عدة كيلومترات ولم يعد بعد ذلك، ولا تذكر الأسفار هذا المعبد بعد ذلك لا بالخير ولا بالشر (ولعل هذه القصة تؤكد ما ذكرناه من قبل من أنه كانت في منطقتنا جيوب متفرقة للتوحيد عندما كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة).

         لم يذكر موسى (ع) أي شيء عن حرمة المسجد الأقصى أو مدينة القدس (نحن في الواقع لا نعرف بالضبط كل ما ذكره موسى، فليس لدينا إلا ما إحتفظوا به في ذاكرتهم وخلطوه بغيره ثم سطره عزرا في الأسفار بعد موسى بألف سنة، لكن هذا هو ما يعتقد عوام اليهود والمسيحيين أنه ما أوحي إلى موسى)، ولم يوصهم أن يتجهوا إليها في صلاتهم، بل علمهم أن القبلة حيث يوجد تابوت العهد الذي وضعت فيه ألواح الشهادة (الوصايا التي تلقاها موسى فوق الجبل)، وأثناء فترة التيه كان التابوت يتنقل معهم في حلهم وترحالهم مع الخيمة التي خصصت له (خيمة الإجتماع)، وفي نهاية فترة التيه، وقبل وفاته على مشارف فلسطين، أوصاهم موسى أن يضعوا التابوت حيث يهديهم الرب، ولمدة تزيد على أربعة قرون تنقل التابوت في عدة مواقع، فلم يكن لليهود أي موقع مقدس، فالقدسية للتابوت، حيثما يوجد يكون مركز العبادة الذي يحج إليه اليهود كل عام ليقدموا الذبائح ويقيموا الطقوس ويسمعوا تلاوة التوراة من الكهنة القائمين على خدمة التابوت.

         قد يتبادر إلى ذهنك أن اليهود كانوا عاجزين عن الوصول إلى المسجد الأقصى فوضعوا التابوت حيثما تيسر لهم، الحقيقة أن سفر يشوع الذي يروي تلك القصة الخرافية عن حروب دامية لم تحدث ذكر أنهم لم يحاربوا اليبوسيين، بل سكنوا معهم في سلام، ولم يرد فيه أو في غيره أن هناك ما كان يمنعهم من إقامة شعائرهم في القدس لو أرادوا.

         ينبغي أن نعيد التذكير بأن اليهود يصرون على أن موسى (ع) هو وحده الذي جاء بالشريعة، وكل أنبياء بني إسرائيل الذين جاءوا من بعده، صلوات الله عليهم أجمعين، لم يكونوا مخولين بتعديل حرف واحد، وهذا صحيح، وهو السبب في أن المسيح بن مريم (ع) لم يأت بشريعة وأعلن في الأناجيل أنه ما جاء لينقض الناموس (الشريعة) ولكن ليرد إليها خراف بني إسرائيل الضالة .. فمن أين إذن ومتى جاءت هذه المكانة الرفيعة لمدينة القدس؟ هذا سؤال ستتضح إجابته في المقالات التالية، المهم هنا أن نؤكد أن ديانة موسى الأصلية لم يكن للقدس فيها أية مكانة.

         أول ذكر لعلاقة اليهود بالقدس ورد في سفر صموئيل الثاني ضمن حكايته الأسطورية عن تأسيس الإمبراطورية، فيذكر أن داود (ع) حاصر المدينة التي كانت على قمة مرتفعة تحوطها أسوار عالية منيعة، ولم يتمكن من دخولها إلا بعد أن عثر على بئر كان اليبوسيون قد حفروها من داخل الأسوار ليحصلوا على المياه من أسفل .. أثبتت الحفريات الأثرية أن المدينة لم يكن لها أسوار من أي نوع، لا في زمن داود ولا بعده لقرون عديدة، فهذه قصة مختلقة من الأساس كأغلب الحكايات المتعلقة بالإمبراطورية.

         ليس فقط لم يكن لها أسوار، بل لم تكن القدس مدينة من أصله، بل كانت قرية صغيرة لا يتجاوز سكانها 5000، ولم تصبح مدينة صغيرة إلا بعد داود بثلاثة قرون .. لكن الأسفار تستمر مع ذلك في الحديث عن المنشآت المعمارية الضخمة العديدة التي أقامها سليمان (ع) في القدس، وأهمها المعبد والقصر الملكي العظيم (والتي لم يجدوا لها أي أثر)، وبعد وفاته إنقسمت المملكة إلى إثنتين، شمالية عاصمتها نابلس ثم السامرة ويحكمها ملوك عدتهم التوراة مغتصبين، وجنوبية عاصمتها القدس يحكمها ملوك شرعيون من نسل داود إسمها "مملكة يهوذا"، حتى دمرها نبوخذ نصر عام 586 وسبى أهلها إلى بابل، لكن البحث الأثري أثبت عدم صحة هذه الحكايات، فالقدس منذ القرن الثامن ق م كانت مجرد مدينة صغيرة لا يمكن أن تكون عاصمة لأي مملكة، يهودية كانت أو غير يهودية، وإستمر الحال على ذلك حتى العصر الهيليني عندما تمكن اليهود بقيادة الكهنة الحشمونيين من القيام بثورة ناجحة ضد السلوقيين وأقاموا مملكة يهودية عاصمتها القدس عام 143 ق م إستمرت حتى وصول الرومان عام 63 ق م.

         لم يحدث إذن أن حكم داود أو سليمان أو أي ملك يهودي آخر مملكة عاصمتها القدس ولم يتخذها اليهود مركزا لعبادتهم إلا بعد موسى على الأقل بالف عام، هذا من ناحية وضعها السياسي والديني، فماذا عن تركيبتها السكانية؟ .. يمكن للمؤرخين والأثريين أن يتعرفوا على الهوية الثقافية للسكان من فحص الآثار المادية التي خلفوها، ولم يجد هؤلاء أي تغيير في نوعية الآثار المعمارية والفنية والنقوش والتماثيل .. إلخ التي وجدوها في الطبقات المختلفة للمدينة منذ تأسيسها إلى أن دمرها البابليون في القر 6 ق م، لذلك يقرر أغلب الدارسين الجادين أن هذه المدينة إستمرت حتى تدميرها مدينة يبوسية (عربية)، وإذا كان بعض اليهود قد سكنوا معهم فلابد أنهم إندمجوا في السكان الأصليين وتبنوا أسلوبهم في الحياة وثقافتهم وفنونهم بحيث لم يتركوا أية آثار يهودية .. أما كيف أصبحت القدس مدينة بهودبة في القرن الخامس ق م (مجرد مينة لها صبغة يهودية وليست عاصمة لأي دولة) فنؤجله للمقال القادم عندما نتناول حكاية هيكل سليمان.

 

ستجد كل مقالات سلسلة "عن فلسطين" على الرابط: http://www.assemelfouly.com/series/34

 

شارك المقال