أسطورة إمبراطورية داود (ص) .. لماذا يؤمن بها المسلمون؟

منذ 3 اسابيع | 45 مشاهدات

يعاني التفنيد الإسلامي للمزاعم الصهيونية من نقطة ضعف مهمة، فكل الشيوخ والمفكرين المسلمين يسلمون بأنه كان ليهود مملكة كبرى عاصمتها القدس، فتقتصر المناقشة حينئذ على مدى صلاحية هذه الحادثة التاريخية لإثبات حق ما لليهود في أرض فلسطين، بينما التاريخ يخبرنا أن اليهود لم يكن لهم أبدا مملكة كبرى، وأن القدس لم تكن أبدا عاصمة لأي مملكة قديمة، يهودية كانت أو كنعانية.

كان المسيحيون يؤمنون، تقليديا، أن داود (ع) أقام إمبراطورية من النيل إلى الفرات، أو على الأقل مملكة كبرى ضمت كامل أرض فلسطين ولبنان والأردن وجنوب سوريا وجزء من سيناء لأنهم يجدون ذلك في كتابهم المقدس، والمسلمون يجدونه في كتب التفاسير وقصص الأنبياء، حتى أن الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله، وهو يكتب موسوعته الشهيرة في أواخر التسعينات، أعطى المملكة مكانا محوريا في التاريخ اليهودي .. تغير الحال في العقود الأخيرة وأصبحنا نجد اليوم أعدادا كبيرة متزايدة من أهم دارسي التاريخ التوراتي، ومنهم أساتذة يهود في الجامعة العبرية بالقدس، يرون أن إمبراطورية داود وسليمان لا تعدو أن تكون أسطورة من الفلكلور الشعبي اليهودي الذي لا يعكس أية حقيقة تاريخية، ومع أن هذا ينسف السردية الصهيونية من جذورها فإن المسلمين ما زالوا يرددون الرواية القديمة عن مملكة داود (ع).

          عندما أخرجت الحركة البروتستانتية نصوص الكتاب المقدس إلى الناس بعد أن ظلت حبيسة جدران الكنيسة الكاثوليكية طوال العصور الوسطى بدأ مفكرو عصر النهضة في قراءتها قراءة نقدية، فأثاروا الكثير من علامات الإستفهام، وكان منها ما تعلق بمملكة داود التي ورثها سليمان، ذلك أن النصوص لا تذكر أية صراعات أو معرك حربية كبرى في عهد سليمان الذي كان زمن سلام ورخاء وإستقرار، ورغم ذلك فبمجرد وفاته لا نجد إلا مملكة صغيرة لا تزيد مساحتها على مساحة الضفة الغربية للأردن، كيف تبخرت المملكة التي كانت، حسب الوصف التوراتي، أكبر ممالك عصرها قاطبة؟

تعمقت هذه الشكوك بشدة في القرن التاسع عشر بعد أن تم فك رموز الكتابات القديمة وقراءة كم كبير من وثائق الفترة التي يفترض قيام مملكة داود فيها، لم يجد الباحثون أي إشارة لأي مملكة عاصمتها القدس، ولا ذكر لداود أو سليمان أو أي ملك يهودي .. حاول المؤرخون التوراتيون وبعض المفكرين المسلمين تفسير ذلك بأن الممالك القديمة في مصر والشام والعراق والأناضول كانت تمر بفترة ضعف شغلتها عن متابعة الأحداث في فلسطين، لم يكن هذا مقنعا بأي حال، فالمملكة المزعومة ضمت أراضي كانت تخضع للدول الكبرى في المنطقة، فكيف لا يرد أي ذكر في وثائقها لملابسات فقد هذه الأقاليم؟ ولماذا لا توجد أي إشارة لعلاقة مع المملكة الجديدة سلما أو حربا؟ ثم أنه قد تم إكتشاف وثائق الدويلات الفلسطينية الكنعانية، والتي كانت موجودة قبل مملكة داود وإستمرت في الوجود بغير إنقطاع دون ذكر لخضوعها للدولة اليهودية، ومع ذلك ظل المؤرخون التوراتيون مصرين على تفسيرهم بإعتبار أن المنهزمين أعرضوا عن ذكر هزائمهم.

          منذ أواخر القرن التاسع عشر تلاحقت البعثات الأثرية الغربية للتنقيب عن الآثار في أرض فلسطين بهدف إثبات صحة الروايات التوراتية، وزادت كثافتها بقيام دولة الكيان الصهيوني في 1948، وبعد إستيلاؤه على القدس الشرقية في 1967 إستعرت حمى البحث عن أنقاض الهيكل اليهودي، لكن كل هذه التنقيبات لم تجد أي أثر يمكن ربطه بداود أو سليمان أو مملكة يهودية، لم يعد أي عالم آثار يحترم نفسه يجد القدرة على الدفاع عن تاريخية المملكة، وفي 1999 يكتب زئيف هرتسوج، وهو يهودي من أكبر علماء الآثار التوراتية، بالحرف الواحد: "بعد 70 عاما من الحفريات المكثفة في أرض إسرائيل توصل علماء الآثار إلى نتيجة مخيفة، هي: لا يوجد هناك شيء على الإطلاق .. حكايات الآباء مجرد أساطير، لم نهبط إلى تلك البلاد [يقصد مصر] ولم نصعد من هناك ولم نحتل هذه البلاد، ولا ذكر لإمبراطورية داود أو سليمان .. الباحثون المهتمون يعرفون هذه الحقائق منذ زمن، أما المجتمع فلا .. إنني أدرك بإعتباري من أبناء الشعب اليهودي وتلميذا للمدرسة التوراتية حجم الإحباط الناتج عن الفرق بين الآمال في إثبات كون التوراة مصدرا تاريخيا وبين الحقائق التي تتكشف على أرض الواقع .. إنني أحس بثقل هذا الإعتراف على جسدي".

          أما نحن المسلمون فلا يمكننا الوصول إلى هذه الدرجة من الإنكار التام، لكن قصارى ما يمكن أن تقودنا إليه نصوصنا هو أن داود (ع) حكم مملكة ما، في مكان ما، في زمن ما، لكن كل التفاصيل الأخرى تركت لنبحث عنها في التاريخ والجغرافيا والآثار، ليس هناك ما يدعونا للقول بأن هذه المملكة كانت في فلسطين وأن عاصمتها كانت القدس، لا أجد في نصوصنا سببا لرفض مزاعم فاضل الربيعي بأنها كانت في اليمن، أو أطروحة كمال الصليبي بأنها كانت في عسير، لكننا لن نقبل أي منها بالطبع إلا إذا تم تعزيزها بشواهد أثرية ووثائق تاريخية .. في اليمن أو  في عسير ربما تكون قد قامت دولة يهودية كبرى، فلم تتم بعد المسوح الأثرية التي تنفي أو تعزز ذلك، أما في فلسطين فلا يمكن لهذه الدولة إلا أن تكون دويلة صغيرة هامشية لم تلعب أي دور في تاريخ المنطقة .. لماذا لم نتبن إذن النتائج التي وصل إليها التوراتيون الجدد ونعتمد على إنكارهم للدولة القديمة في دحضنا للمزاعم الصهيونية؟

          كثير من المسلمين، عندما يقرأون قوله تعالى: "‏ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ  .." ص:26، وقوله على لسان سليمان: "قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ .." ص: 35، يتولد عندهم الإنطباع بأن مملكة داود وسليمان لابد أن تكون كبيرة شاسعة ممتدة الأطراف، لكن الواقع أن الخلافة لا تشير إلى إتساع الدولة، ولكن إلى أنها كانت تحكم بشريعة الله، فأبو بكر (رض) كان خليفة من لحظة أن بايعه المسلمون غداة يوم السقيفة، مع أن سلطته لم تكن تصل إلى ضواحي المدينة، حيث رفض الأعراب الإعتراف بها وظلوا يغيرون على المدينة لمدة شهرين، حتى عاد جيش أسامة وبدأت حروب الردة، أما سلطة سليمان (ع) التي لم تكن لحاكم بعده فلم تنتج عن إتساع رقعة المملكة (فقد جاءت بعده إمبراطوريات أضخم بكثير من أي مملكة قديمة) وإنما تفرد سليمان بأن سلطته خضع لها كل ما في دولته من بشر ودواب وطيور وحشرات وجان وحتى بعض الظواهر الطبيعية  (الرياح تجري بأمره) .. إذا كانت لدواد وسليمان دولة في فلسطين فقد كانت دولة صغيرة هامشية ليس لها أي أثر على تاريخ فلسطين، وبالتأكيد لم تكن عاصمتها في القدس، وهذا موضوع يستحق مقالا مستقلا.

 

شارك المقال