منذ 6 سنة | 3500 مشاهدات
ومع ذلك فإن الكثيرين من المسلمين المخلصين الغيورين على دينهم يرفضون الديموقراطية لأنهم يتصورون أن حكاية فصل الدين عن الدولة قد دخلت إلى الفكر السياسي من بابها، حتى وصل الأمر بواحد من مشاهير الدعاة إلى أن يقول بمنتهى الثقة: "من أسس الديموقراطية فصل الدين عن الحياة .. يقول لك فصل الدين عن الدولة، لكن الدولة هي الحياة .. الدين شخصي لكن الدنيا إحنا اللي نقول، نفتح بيوت دعارة نفتح بيوت ربوية ما تقليش حلال وحرام، هذا هو أساس الديموقراطية"، وبغض النظر عن أن الدولة ليست هي المجتمع والحياة، فإن المقولة خاطئة من أساسها، فعلاقة الدين بالدولة ليست من القضايا التي تتعلق بالديموقراطية والإستبداد.
ينبغي أن نوضح أولا أنه من موقف علمي صرف فإن فصل الدين عن الدولة هي خرافة كبيرة، ومسألة مستحيلة التحقيق على أرض الواقع، سواء كان الدين هو كما نجده في العلوم الإجتماعية أو كما نفهمه من إستخدام كتاب الله العزيز للكلمة، فالدين في جوهره هو مجموعة من التصورات عن الوجود والقوى التي تحكمه، والحياة ودور الإنسان على الأرض (ما يسميه الفكر الإسلامي: العقائد)، بالإضافة إلى مجموعة القيم والمسلمات وقواعد السلوك التي ترتبط بهذه التصورات وتشتق منها، وإذا حاولت مجموعة من الناس أن تقيم دولة بلا دين – بالمفهوم العلمي للدين – فستنهار هذه الدولة من تلقاء نفسها (عرضنا هذه القضية بتفصيل أكبر من وجهة نظر علم الإجتماع في مقال "الإسلام الحضاري")، وكل صور العالمانية، بما فيها الإلحاد الكامل، هي أديان بهذا المعنى، وبالمناسبة: أصدرت المحاكم الأمريكية في عدة مناسبات أحكاما تعتبر العالمانية دينا من الأديان.
ربما جاء اللبس عند هذا البعض من الإسلاميين من حقيقة أن أوائل الداعين للديموقراطية في الغرب طالبوا بفصل المؤسسة الدينية عندهم عن الحياة السياسية برمتها، ولما كان مثقفونا المتغربون يصفون الأزهر بأنه المؤسسة الدينية الإسلامية، فقد إستنتج البعض منا أن المطالبة بالديموقراطية ستتخذ نفس المنحى عندنا، مع أن مشكلة الديموقراطية لم تكن مع الدين في ذاته أو في تعاليمه وأحكامه، إنما كانت مشكلتهم أن دينهم يؤمن بعصمة البابا والكنيسة من الخطأ، والممارسة الديموقراطية تتطلب إعطاء الشعوب حق إختيار حكامهم، ومراقبتهم، ومحاسبتهم، وعزلهم وإستبدالهم إذا رأت ذلك، ورجال الدين الكاثوليك لا يمكن معارضتهم في أي شأن من شئون الدين أو الدنيا، ناهيك عن عزلهم وإستبدالهم بمعرفة الشعوب، ومن هنا جاءت المطالبة بفصل أعمال الدولة ووظائفها عن تدخلات الكنيسة، لا عزل الدين نفسه، فقد كانت معظم الشعوب الأوروبية، وما زال بعضها حتى الآن, مقيمة على تدينها، وتعطي لإلتزام رجل السياسة بتعاليم الدين وزنا مهما، وأغلب رجال الدولة حتى نهاية القرن التاسع عشر كانوا من المعروفين بتدينهم، حتى أن العصر الفيكتوري في إنجلترا، قمة إزدهار الدولة وتوسعها الإمبراطوري وترسخ الديموقراطية، إتسم بالمحافظة الدينية على كل المستويات.
وتتطلب الديموقراطية أن يختار الشعب حكامه بحرية تامة، سواء رجال السلطة التنفيذية أو التشريعية، ولا ينبغي أن يضع النظام السياسي قيودا على الشعب في ذلك (فحظر إنشاء أحزاب إسلامية هو عمل يخالف الديموقراطية قطعا)، ولا يوجد في الديموقراطية ما يمنع الشعب من إختيار حكاما متدينين، ولا ما يمنع هؤلاء الحكام (تنفيذيين وتشريعيين) من الإاتزام بأحكام دينهم في قراراتهم السياسية .. لا تعترض الديموقراطية الحقة (لا تلك المزورة التي يدعيها مثقفونا العالمانيين ويدسونها علينا) على وجود أحزاب تنتسب لأي دين وتستمد برامجها منه، والإختيار للشعب، والدليل هو أن ساحة العمل السياسي في الغرب تكتظ بالأحزاب الديموقراطية المسيحية، بل وبالإشتراكية المسيحية، وبعض هذه الأحزاب يحكم فعلا في بعض من أهم دول أوروبا (ألمانيا مثلا).
وإذا كانت التشريعات في بعض الدول الغربية صارت الآن لا تحترم مبادئ الدين وقيمه، وأحيانا تتصادم معه بشكل صارخ، فإن هذا لا دخل له بكونها دولا ديمقراطية، فهي ديموقراطية منذ قرنين أو أكثر، وإنما يعكس حقيقة أن ثقافة هذه الشعوب قد إبتعدت عن الدين وغلبت عليها الأفكار والتصورات العالمانية، وأن المتدينين منهم أصبحوا يؤمنون أن الدين مسألة شخصية لا ينبغي أن يكون لها تأثير على الفاعليات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية، ولم يعودوا ينظرون إلى الدين كمنهج لتنظيم الحياة ولا كمعيار لصلاحية الفرد لشغل المناصب العامة، وما دامت هذه الأوضاع هي ما يريده الشعب ويرضى عنه فإن المشكلة لا تكمن في الديمقراطية، وإنما لرؤية هذه الشعوب للوجود وللحياة.
من المؤكد أن الديموقراطية لا تشترط فصل الدين عن الدولة، فهي لا تهدف إلا إلى أن تكون ممارسة السلطة وسن القوانين إنعكاسا لما يريده الشعب، ولا تشترط إلا الضمانات التي تحقق هذه الإرادة، وأي شعب متدين لن يرضى إلا بما يرتضيه له دينه، والحمد لله رب العالمين.