منذ 6 سنة | 3350 مشاهدات
الكلام عن القبول بالتعددية الفكرية والسياسية أصبح موضة، يلوكها الجميع تقريبا، لكن الأمر وصل ببعض دعاة الإسلام لأن يوحي كلامهم بأنهم لا يفرقون بين التعددية في الإسلام والتعددية العالمانية الليبرالية.
علينا أن نتذكر دائما أن القبول بالتعددية ليس من أصول العالمانية ولا هو من عناصرها الجوهرية، فالليبرالية فقط هي التجلي العالماني الوحيد الذي يعلي من قدر التعددية، أما الشيوعية والنازية والفاشية (والناصرية أحد فروع الفاشية)، وهي كلها عالمانيات متطرفة، فقد منعت التعددية حتى في إطار الأيديولوجيا نفسها، ويبدو ذلك واضحا من إصرارها على نظام الحزب الواحد، وفي داخل هذا الحزب لا تسمح بتعدد الأجنحة التي تختلف حول أنسب طرق تطبيق برنامح الحزب، وكل خلاف يجب حسمه ومنع المخالفين من محاولة الدفاع عن وجهة نظرهم (غالبا ما كان المنع بدنيا، بالسجن أو القتل).
لقد كان مجتمع المسلمين هو أول مجتمع بشري يقبل بالتعددية داخل منظومته الفكرية (المذاهب الفقهية والفرق الكلامية)، ويسمح بتعايش كل أصحاب العقائد والأفكار المخالفه له في دولته وتحت سلطته السياسية، وكل من يحاول طمس هذه الحقيقة ستخذله نصوص الوحي وحقائق التاريخ، لكن للتعددية في الإسلام مذاقها المختلف تماما عن المذاق الليبرالي للتعددية.
تتأسس العالمانية، بكل تجلياتها، على أن العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة، وأن النظر في الطبيعة هو السبيل الوحيد للوصول إلى الحقيقة (إذا إستبعدنا القائلين بعدم وجود حقيقة من أصله)، وتتميز الليبرالية من بين سائر العالمانيات (في أساسها النظري على الأقل) بأنها تسمح بكل الممارسات الشخصية ما دام تأثيرها لا يتعدى نطاق صاحبها، وتوجب إحترام كل الأفكار وحق أصحابها في التعبير عنها مهما كان شذوذها وخروجها عن المعقول منطقيا أو المقبول إجتماعيا، فليس هناك عقل أولى من عقل بالتفكير، ولا يحق لأحد أن يدعي خطأ المخالف، فلا توجد أية مطلقات عقائدية أو قيمية تضع حدودا للفكر والممارسة، وتبيح وسم من يخرج عنها بالخطأ، والمثال الأبرز هو الموقف من الشذوذ الجنسي، ورفض تسميته بالشذوذ أو النظر إلى ممارسيه نظرة سلبية، على أساس أن من حق كل فرد أن يمارس الجنس بالطريقة التي يفضلها، لذلك لا يحق لك أن تنعت أصحاب التفضيلات التي تختلف عن تفضيلاتك بالشذوذ (فلماذا تعتبر أنك أنت الطبيعي)، بل هم مثليون، وهم أحرار في ذلك ولهم كل الإحترام.
أما المنهج الإسلامي في التفكير فيؤمن بأن الوحي هو مصدر القيم وأساس التشريع، وما الإجتهاد إلا محاولة لفهم مراد الله، وكل من إستوفي مؤهلات النظر الشرعي له حق الإختلاف في ما يجوز فيه النظر، ولا تثريب على المختلف ولا على من إتبعه، فكلها مذاهب في الإسلام، لكن الإجتهاد لا يكون إلا في الظنيات، أما القطعيات فهي الهيكل العظمي والعمود الفقري للفكر الإسلامي، مخالفتها تخرجك من تحت عباءة هذا الفكر .. لكن ماذا لو أردت أن تكون في الخارج؟
من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، لكننا، على عكس الليبرالين، نصر على تسمية الكفر بالكفر، والكفر نعده إنحرافا في التفكير، لكننا لا نقهر هؤلاء المنحرفين على قبول الفكر السليم .. المنهج الإسلامي في المعرفة الإنسانية يرفض تمييع الحدود، الخلاف المقبول الذي يمكن أن ننصاع لحكمه راضين، إذا تبنته الأغلبية وكنا من الأقلية، هو ذلك الذي يقع في فهم مراد الله ملتزما بأصول الفكر العقلي المستقيم، لكننا لا نحترم أبدا إهمال مراد الله، ناهيك عن معرفته وتعمد مخالفته، وإذا كنا لا نقهر الآخرين على قبول فكرنا فإننا نصر على أنهم على خطأ، بدون غمغمة ولا لجلجة ولا مضغ للكلمات .. قبول شخص الآخر والتعايش معه فيما يتعلق بمصالح الدنيا المشتركة شيء، وطمس الحدود بين من هو مسلم ومن هو غير ذلك شيء آخر.
وهذا يقودنا إلى النظام السياسي الذي نعده التطبيق المعاصر لمبادئ الإسلام في الحكم .. آليات الديموقراطية وحرية التدين .. موضوع المقالات التالية في هذه السلسلة بإذن الله.