لم أظن أني سأحتاج يوما لإعادة الكلام في موضوع فوائد البنوك، ولم أكن لأفعل لولا أن تكرر في الآونة الأخير التعبير عن الإلتباس والشك في حكمها من أشخاص أحسبهم على درجة عالية من التدين والورع .. لقد حسمت كل المجامع الفقهية التي إنعقدت منذ عدة عقود هذه المسألة: فوائد البنوك هي عين الربا المحرم .. فالآيات الواردة في تحريم الربا واضحة بشكل لا يحتاج من المسلم إلا معرفة القراءة، فليست فيها ألفاظ غريبة أو لم تعد مستعملة حتى يحتاج المرء إلى الرجوع للمعاجم اللغوية، وعباراتها ظاهرة وأسلوبها مباشر لا يحتاج إلى تفسير أو إجتهاد:

"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون * وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون"    البقرة: 278-280

       وعندما أصدر الدكتور محمد سيد طنطاوي فتواه الشهيرة بحل فوائد البنوك تصدى طائفة من أكابر العلماء ليثبتوا خطأ هذه الفتوى، وبحثت عن مستند الرجل في فتواه، هل صح عنده، مثلا، حديث لم يصح عند أحد غيره من فقهاء الأمة، أم ماذا؟ .. وجدته يستند إلى حجة عجيبة، هي أن معاملات البنوك معاملات مستحدثة، والأصل في الأمور الإباحة [!!] .. من أين جئت يا مولانا بأنها معاملات مستحدثة؟ قال: سألت رجال البنوك، وهم أهل الذكر في هذا الموضوع [!!] .. يا سيدي الخبراء دورهم أن يشرحوا لك طبيعة المعاملة، لكنهم ليسو أهل الإختصاص في معرفة ما إذا كانت جديدة أم هي نفسها التي نزلت فيها الآيات .. ما هو المستحدث في أن يقدم البعض قرضا إلى أجل ويأخذ زيادة مقابل هذا الأجل؟ هذا هو عين ربا الجاهلية (ربا النسيئة)، وإذا كانت البنوك كمؤسسات هي تنظيمات مستحدثة فليس لها أن تستحل معاملات محرمة، هل لو إستحدث البعض تنظيما جديدا لممارسة البغاء (من خلال الإنترنت مثلا, وقد فعلوا) ستصبح هذه ممارسة مستحدثة الأصل فيها الإباحة؟ .. الآيات ناصعة الوضوح: لكم رؤوس أموالكم، كل زيادة على رأس المال تدخل في موضوع الآيات.

         ثم علمت أن الشيخ جمال قطب أفتى بدوره بجواز أخذ فوائد البنوك، ثم قال لي من أثق به أنه سمع من الشيخ أنه لم يصدر الفتوى بصيغة العموم، وإنما أفتى طائفة معينة، هم العمال الذين أحيلوا للمعاش المبكر ضمن برنامج الخصخصة، بجواز أن يضعوا أموالهم في البنوك إذا كانوا لا يعرفون كيف يستثمرونها بأنفسهم .. ولو .. هل سنفتي مثلا بأن المرأة الفقيرة يجوز لها ممارسة الدعارة إذا كانت لا تعرف طريقة أخرى تكسب بها قوتها؟ .. لا يوجد في القرآن كله إلا جريمتين عقوبتها الحرب من الله هما: الشرك، وأكل الربا .. القضية خطيرة إذن خطورة الإلحاد، ولا يجوز التساهل فيها، صحيح أن الضرورات تبيح المحظورات، لكن الضرورة تقدر بقدرها، ولا أعرف كيف يقال أن رجلا لديه بضع عشرات الألوف من الجنيهات مضطر لوضعها في البنك وأكل فوائدها، هل تأكدت أنه لا يعرف صديقا أو جارا أو قريبا يمكنه أن يستغل هذا المال على سبيل المشاركة؟ هل تأكدت أن هذا الرجل سيموت من الجوع أو المرض هو أو أهله بدون فوائد البنوك؟ ولماذا لم تشترط بنكا إسلاميا؟ (مهما كانت ملاحظاتك على ممارسات البنوك الإسلامية، وسنذكر بعضها في مقالات قادمة يإذن الله، فهي تتعلق بتوجيه اللوم للبنك الذي يخالف الشرع، لا للمودع حسن النية الذي صدق أن البنك سيلتزم بالأحكام) .. غفر الله لنا وللشيخ، وصدق الرسول الكريم (ص) القائل: "أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار" أو كما قال.

         سنخصص المقال التالي بإذن الله لبض ما نعرفه من حكم جليلة موضوعية لتحريم الربا، لأنه يدمر القدرات الإنتاجية للأمة، ولأسباب أخرى .. اللهم عفوك ورضاك.