منذ 6 سنة | 3612 مشاهدات
لم يكن إبن تيمية أول من أبدى إمتعاضه من إصرار الفلاسفة اليونان على التعامل مع ماهيات الأشياء التي يبحثون فيها، فالواقع أن الفكر الإسلامي منذ بدايته أكد على عجز العقل الإنساني في كثير من الأحوال عن معرفة "الماهية"، وأن تعريف الأشياء بخواصها وأعراضها كاف تماما للتعامل العقلي معها والوصول إلى كل ما نحتاجه في حياتنا من دراستنا لها، وحتى الفلاسفة المسلمين الذين تبنوا المنطق اليوناني في فلسفتهم أكدوا، بسبب تأثرهم بمناخ الفكر الإسلامي ومباحث علم أصول الفقه، أن معرفة الماهيات غير ممكن وغير ضروري للإنتاج الفكري، ومنذ الفارابي، في أوائل القرن الرابع الهجري، إكتفى بعض كبار متفلسفة المسلمين بتعريف موضوعاتهم بخصائصها دون الإصرار على معرفة ماهياتها.
لكن إبن تيمية كان هو أول من أثبت نظريا وبأسلوب منهجي أن قواعد الإستنباط الأرسطية لا تصلح للإستخدام خارج نطاق المباحث العقلية المجردة، فنراه يكتب في "نقض المنطق": "أما ما كان في الموجودات الجسمانية، ويسمونه بالعلم الطبيعي، فوجه قصوره [يقصد قصور البرهان المنطقي الأرسطي] أن المطابقة بين تلك النتائج الذهنية التي تستخرج بالحدود والأقيسة، كما في زعمهم، وبين ما في الخارج غير يقيني، لأن تلك أحكام كلية ذهنية عامة، والموجودات الخارجية متشخصة بموادها، ولعل في المواد ما يمنع من مطابقة الذهني الكلي للخارجي الشخصي، إلا ما يشهد له الحس من ذلك، فدليله شهوده بالحس، لا تلك البراهين، فأين اليقين الذي يجدونه فيه" .. في هذه الفقرة نلمح الفكرة الأساسية لعلماء المسلمين، والتي قادتهم في بحثهم العلمي، ثم نشأ حولها منهج البحث العلمي التجريبي الحديث فيما بعد، وهي أن الأشياء الموجودة في الطبيعة يجب فحصها وإجراء التجارب عليها لمعرفة خصائصها واستنتاج القوانين التي تحكمها، ولا يصلح في العلم الطبيعي أية تأملات عقلية أو قياسات منطقية .. وإذا كان هذا يبدو لك بديهيا واضحا الآن، فإن أرسطو كان في الواقع يختلف معك تماما.
ويسترسل إبن تيمية بإيجاز يناسب فقيه مسلم لا عالم في الفيزياء أو الكيمياء أو الأحياء .. إلخ في إيضاح أن البحث العلمي في الظواهر الطبيعية ينبغي أن ينبذ منطق أرسطو الصوري ويعتمد بدلا منه على منهج الإستقراء الجزئي، ولقد كانت هذه هي البدايات الأولى لإطلاق سراح العقل في الطريق إلى بناء المنهج العلمي التجريبي الحديث للبحث، فالعلم لم ينطلق إلا بعد أن تحرر من منطق أرسطو وسار في الطريق الذي كان ابن تيميه من أوائل من سلكوه على درب الاستقراء المنهجي، طارحا خلفه قياس أرسطو (للتعرف على عناصر منهج البحث العلمي الحديث كما نجده اليوم في أدبيات فلسفة العلم يمكن للقارئ الرجوع إلى الفصل الخامس من الباب الأول من كتابنا "خواطر ماركسي سابق" ص ص 42 - 49 ليجد شرحا مبسطا لها).
كان أرسطو يرى أن القياس المنطقي الذي يبدأ من قضية كلية هو الطريق الوحيد للوصول إلى معرفة يقينية، أما الاستقراء الجزئي فلم يره منتجا للعلم، ولم يعترف إلا بالإستقراء الكلي الذي يعتمد على تصفح كل جزئيات الموضوع، أما تصفح بعضها لاستنتاج حكم وسحبه بعد ذلك على سائر الأفراد فلم يعتبره طريقا للعلم اليقيني، ولكن العلم الحديث أقام بنائه كله على فحص بعض العينات وإجراء التجارب عليها واعتبار أن النتائج التي يصل إليها تصف خصائص كل الأفراد المتشابهة لا العينات موضوع البحث فقط، هذا هو بالضبط الاستقراء الجزئي الذي دافع عنه ابن تيميه في منهجه التجريبي، وذلك ضد المناطقة الأرسطيين، فقال د. فؤاد زكريا أن المسلمين رفضوا التفكير العقلي عندما رفضوا المنطق، متجاهلا أن فلاسفة العلم الحديث كلهم يهاجمون هذا المنطق لنفس الأسباب التي ذكرها إبن تيمية.
يقول ويل ديورانت في "قصة الفلسفة": "إن ما يثير فينا الاستياء من أرسطو في المقام الأول هو إصراره على المنطق، فهو يعتقد بأن القياس المنطقي هو وسيلة الإنسان الصحيحة للتفكير السليم، مع أنه مجرد وسيلة يلبس فيها المرء تفكيره لإقناع عقول الآخرين، وهو يفترض بأن الفكر يبدأ بالمقدمات ثم يبحث عن نتائجها، بينما في الحقيقة يبدأ الفكر بالنتائج الافتراضية ويبحث عن مقدمات تبررها".
ولقد كانت بداية المنهج العلمي التجريبي في أوروبا عندما قام فرانسيس بيكون - الذي يصفه بعض مؤرخي الفلسفة بأنه أعظم عقل في العصور الحديثة - بإعادة وضع أسس الاستقراء المنهجي - بعد ابن تيميه بحوالي أربعة قرون - وقال في كتابه "الأدلة على البحث الجديد": "إن خطأ فلاسفة اليونان الكبير هو أنهم صرفوا وقتا كبيرا في النواحي النظرية والقليل في الملاحظة والبحث العلمي، ولكن الفكر يجب أن يكون مساعدا للملاحظة لا بديلا عنها"، ويقول: "والآن بعد ألفي سنة من تخريط المنطق وفرمه بالآلة التي اخترعها أرسطو، سقطت الفلسفة إلى درجة فقدت معها احترام الجميع، يجب أن نقذف بجميع نظريات القرون الوسطى والجدل والحوار والنظريات التي تحتاج إلى إقامة البرهان بعيدا وننساها"، ويزخر كتابه "تقدم التعليم" بالهجوم على أرسطو وتلامذته في العصور الوسطى، وعلى الإستدلال القياسي، وفي فقرات من كتابه "البناء الرائع" يقول: "إن القياس المنطقي لا يطبق على المبادئ الأولية للعلوم، ويطبق عبثا على البديهيات الوسطى، وهو في هذا لا يباري الطبيعة دقة، وهو يقود إلى التسليم بالقضية شكلا ويهرب منه الموضوع"، كما نجد أشد من هذا عند روجر بيكون: "لو تركت لي الحرية لأحرقت كتب أرسطو جميعا، وذلك لأن دراستها لا يمكن أن تؤدي إلا إلى الضياع والى الخطأ وزياده الجهل".. ألا يلاحظ القارئ أن هذا الكلام لا يختلف في جوهره كثيرا عن مقولة ابن الصلاح التي عايرنا بها الدكتور فؤاد زكريا "من تمنطق فقد تزندق"..؟