اليسار

منذ 6 سنة | 2122 مشاهدات

غالبا ما نطلق إسم "اليسار" على الإشتراكيين بكل تنويعاتهم، لكن المصطلح نشأ في الأصل ليشير إلى القوى الراغبة في التغيير الشامل للنظام، السياسي والإقتصادي والإجتماعي، فقد كانت مجموعة النواب الداعين للتغيير في البرلمان الفرنسي قبل الثورة يجلسون على يسار المنصة، بينما على يمينها جلس النواب الموالين للنظام الملكي الأرستقراطي المدافعين عن العلاقات الإقطاعية (لمعرفة أسباب الصراع بينهما أنظر الفصل الأول من كتابنا بؤس الحل الليبرالي الذي يمكن تحميله من على الموقع)، ومن هؤلاء "اليساريين" جاء معظم الذين قادوا الثورة الفرنسية تحت شعار "الحرية والإخاء والمساواة"، ومع ذلك فلم يكونوا كلهم إشتراكيين، كانوا خليطا من اتجاهات متعددة يجمعها الاتفاق على حتمية إسقاط سلطة الطبقة الأرستقراطية وإلغاء نظامها الإقطاعي، دون أن يكونوا متفقين على البديل الذي سيحلونه مكانه.

          لا تعنينا هنا أحداث الثورة الفرنسية ولا كيف تم إسقاط النظام، المهم هو أن إلغاء النظام الملكي الإقطاعي، وإزاحة طبقة النبلاء الأرستقراطيين التي كانت تقبع على قمة الهرم السياسي والإجتماعي جعل الطبقة التي تليهم، الطبقة الوسطى (البورجوازية)، والتي تتكون من رجال الصناعة والأعمال والممولين والتجار، تتصدر المشهد، وتستخدم القوة التي تستمدها من سيطرتها الفعلية على الإقتصاد، لتعيد تشكيل النظام بحيث تسود العلاقات الرأسمالية، وبدأ مثقفوها ومنظروها في ترسيخ الخلفية الفكرية التي تدعم سلطتها، مؤكدين أن الترجمة الحقيقية لشعار الثورة "الحرية والإخاء والمساواة" هو ذلك النظام الذي يحرر الإقتصاد من كل القيود، ويعطي للمواطنين حرية مزاولة العمل الذي يختارونه بالشروط التي يتراضون عليها، وأن تتحدد الأجور والأسعار بكل حرية من خلال تفاعل رغبات المواطنين الحرة من كل قيد، أما المساواة فهي المساواة أمام القانون، وحق كل المواطنين في المشاركة في اختيار حكامهم، أما الإخاء فسيتحقق تلقائيا عندما لا يكون لأي فرد أية حقوق أو إمتيازات يكتسبها لمجرد أنه ولد في عائلة من طبقة معينة .. وأخذت في التبلور كل النظريات والفلسفات التي حملت بعد ذلك إسم "الليبرالية" والتي يمكن ترجمتها "التحررية".

          لكن فريقا معتبرا من الثوار رأوا أن هذا النظام البازغ (الرأسمالي) لا يحقق أهداف الثورة، لأنه ينقل السلطة من طبقة إلى طبقة ولا يعطيها للشعب كله، فلم تتحقق المساواة، أما الحرية التي تتحدث عنها البورجوازية فهي ليست أكثر من إعطاء الطبقات المقهورة حق اختيار السيد الذي سيستغلها، بدلا من الوضع القديم الذي كان يفرض عليهم العمل لحساب الإقطاعي الذي يولدون في إقطاعيته .. كان هؤلاء الثوار يثقون في الطبيعة الخيرة للإنسان، والتي تجعل البشر مستعدين للتعاون والتضامن فيما بينهم لإنتاج السلع والخدمات والاستمتاع سويا بنتائج عملهم، وأن وجود سلطة الدولة المنحازة للطبقات الأقوى وما تمارسه عليهم من قهر هو الذي يحول دون ظهور هذه الطبيعة الخيرة .. القاسم المشترك بين هؤلاء الرافضين للنظام الرأسمالي كان هو أنهم يرفضون النزعة الفردية التي ترى أن مصالح المجتمع ستتحقق بصورة تلقائية من خلال سعي كل فرد لتحقيق مصالحه الخاصة، ويرون أن المجتمع هو كيان عضوي له شخصيته التي تعلو على شخصية أي فرد فيه، وأن الناس عندما تتعاون بحرية لتحقيق مصالح هذا المجتمع ستحقق مصالحهم الفردية، وليس العكس، أصبح هؤلاء الثوار على الرأسمالية هم اليساريون لأنهم هم الذين يريدون تغيير النظام، بعضهم فضل أن يطلق على نفسه "الليبرتارية"، أي أنهم هم أنصار الحرية الحقيقية لا تلك المزيفة التي تصفها الليبرالية البورجوازية، وبعضهم استخدم تعبير "المجتمعيون Socialists"، أي الذين يعلون شأن "المجتمع ٍSociety"، وهو المصطلح الذي ترجم عندنا "الإشتراكيون"، وهي ترجمة غير دقيقة، لكنها شاعت واتخذت معناها الاصطلاحي، ولا مشاحة في الاصطلاح.

          باختصار، بعد انتصار الثورة الفرنسية، ولمدة خمسة عقود، أصبح "اليسار" مصطلحا يطلق على هؤلاء الذين يناهضون النظام الرأسمالي من منطلق الرغبة في تأسيس نظام يساهم فيه كل الناس في إدارة مجتمعهم، فهم مجتمعيون، أو إشتراكيون، لا تجمعهم إلا شعارات عامة فضفاضة وأفكار غامضة مشوشة، تعبر عن إيمانهم بأن الناس إذا تركت لهم الحرية فسينشئون نظاما إنسانيا تعاونيا يتبادلون فيه المنافع على قدم المساواة لصالح الجميع، حتى منتصف القرن التاسع عشر، عندما كتب ماركس وإنجلز بيانهم الشيوعي، أو "المانيفستو الشيوعي"، وبدأوا في تأصيل نظرية متكاملة يحاولان بها وصف طبيعة الصراع الدائر وقتها، وكيفية الوصول إلى هذا المجتمع المنشود، ورغم الرواج الكبير لهذه النظرية، والعدد الهائل من الأنصار الذين آمنوا بها، فإن الماركسية ظلت واحدة من الاتجاهات اليسارية، وليست هي كل اليسار. 

شارك المقال