منذ 6 سنة | 3300 مشاهدات
ظهر مفهوم السيادة مع التطورات التي أفرزت الدولة القومية الحديثة في أوروبا، وطرح الفكر الغربي هذا المفهوم خلال معركته مع نظرية الحق الإلهي للملوك التي صاغت النظم السياسية للعصور الوسطى عندهم، وصاحب السيادة في هذا المفهوم هو منبع كل السلطات، لا يقف بجانب سلطته – ولا يعلوها بالطبع – أي سلطة أخرى، كان للملك الأوروبي سلطات مطلقة تطال كل جوانب الحياة وكلمته هي القانون .. أما في فكرهم السياسي الحديث فقد أصبحت الدولة هي التي تملك سيادة مطلقة، لا تحتاج لتبرير شرعية أوامرها إلا إلى إثبات صدور هذه الأوامر من خلال إجراءات سليمة، وعندما تطرق المفكرون الإسلاميون لموضوع السيادة اختلفوا اختلافا كبيرا، فمنهم من رأى أن السيادة في الدولة الإسلامية هي بالضبط ما وصل إليه الفكر الغربي، وعلى الطرف الآخر وقف مفكرون إسلاميون، منهم الدكتور عبد الرزاق السنهوري، الذي رأى أن: "السيادة لله، وسلطة الحكم مفوضة للشعب يمارسها في حدود السيادة .. الله لم يفوض السيادة وإلا لكان للأمة حق تعديل الشريعة، والله لم يعطها هذا الحق".
أما الدكتور عبد الحميد متولي فيتخذ موقفا مختلفا من فكرة السيادة نفسها، فيقول: "إذا كان مبدأ سيادة الأمة إنما استنبط ليكون معولا لهدم نظرية معينة يستند إليها نظام الحكم المطلق، وإذا كانت النظرية قد تم هدمها فعلا (إذ لم يعد هناك من يقول بالتفويض الإلهي) فما فائدة هذا المعول إذن ولم نبقي عليه؟" .. وينتهي إلى أنه إذا كان ولابد من وضع مفهوم السيادة في صياغة تفيد الأمة من إيجابياته وتتجنب سلبياته فليكن "لا سيادة لفرد ولا لجماعة على الأمة"، وهي كما ترى صياغة تتجنب إثبات السيادة للأمة أو لأي جهة أخرى، وتحرر الأمة في نفس الوقت من كل سلطان على الأرض، وتؤدي في الواقع العملي إلى أن تكون الأمة هي المصدر الوحيد للسلطة في الدولة الإسلامية، لا يمكن لأحد أن يستمد سلطانه من غيرها، ولكنه يتجنب أهم عيوب مبدأ سيادة الأمة عندما ينزع العصمة عن القرارات التي تصدرها.
وقد أعلنت جماعة الأخوان المسلمون – بعد طول توقف عن إبداء الرأي – تبنيها لمفهوم أن "الأمة مصدر السلطات" في بيانها الصادر عام 1994 والذي صاغت فيه موقفها الأخير من الديمقراطية والانتخابات والبرلمان.
لكن الشيخ الداعية يصر على أن الديموقراطية "كفر" لأنها تقول أن السيادة للشعب (مع أن الطبعة التي نتبناها من الديموقراطية لا تتكلم عن السيادة، ولا تريد إلا أن يكون الشعب هو مصدر السلطات)، ويستطرد في حماس بالغ مؤكدا فكرته: "يعني الشعب يختار مندوبين يقول لهم ما يريدون، وهؤلاء المندوبون ينقلون رغبته، عايزين بيوت دعارة أفتح بيوت دعارة، الناس تريد عمل فعل قوم لوط عادي جدا .. حكم الشعب للشعب .. لا، إحنا عندنا حكم الله للشعب" .. ونحن نتعجب من فكرة أن الله في الإسلام هو الذي يحكم وليس الحكام البشر، فما نفهمه من حديث رسولنا (ص) هو العكس تماما، عندما يوصي قائده: "... وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزل على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فأنت لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا" ..
وقديما قال الخوارج لعلي بن أبي طالب (رض) لا حكم إلا لله، فرد عليهم بأنها كلمة حق يراد بها باطل، وأضاف: "نعم، إنه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلا لله .. وإنه لابد للناس من أمير، بر أو فاجر .." .. أرأيت كيف ميز الإمام بين حقيقة أن الحكم لله ولكن السلطة السياسية للبشر .. إن حكم الله سيتحقق فينا شئنا أم أبينا، آمنا أم – والعياذ بالله – كفرنا، هل يظن أحد أن الكفار خارجين عن حكم الله؟ .. ما أراد الله كان، ولكنه ترك لنا مساحة من الاختيار ليحاسبنا، والسلطة تمارس حكمها في هذه المساحة، لا تستطيع أن تتجاوزها ولو أرادت، والحاكم المسلم سيتحرى أن يوافق حكمه ما يحبه الله ويرضاه، ولكنه بشر يجتهد حسبما أوتي من علم، لا يتلقى الوحي ولا عصمة لقراراته (ورضي الله عن أبي بكر الذي قال بعد بيعته: "ألا فراعوني، فإن إستقمت فأعينوني، وإن زغت فقوموني")، فإن وفقه الله فله أجران، وإن أخطأ كان أجرا واحدا، ولكن نحن علينا أن نعارضه، وأن نعمل جاهدين على أن يعدل عن حكمه الذي يغلب على ظننا أنه خطأ.
إن علماء الشريعة متفقون على أن غالبية الأحكام تعتمد على أدلة ظنية، خاصة في المعاملات، وأن المجتهد إنما يحكم بما ترجح عنده ولا يمكنه القطع بمراد الله، وأصول الفقه نفسها تسمح بالوصول إلى أحكام مختلفة، وإدراكنا للواقع له دور مؤثر في الفتوى .. إذا كان هذا هو حال الفقه الذي هو علم منضبط، فكيف بالقرارات السياسية التي تبنى غالبا على تقدير المصلحة، وعلى البدائل المتاحة والحلول الممكنة، والحاكم إنسان عادي قد يصيب وقد يخطئ .. والله سبحانه وتعالى أعطانا حق منازعة الحكام " .. أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر .." النساء:59، وهو حق لا يملك أحد مهما علا كعبه في الإسلام أن يسلبنا إياه بمقوله أن الحاكم إنما ينفذ شرع الله أو أي مقولة أخرى.
فمن صاحب السلطة العليا في الدولة الإسلامية إذن؟ .. في معرض تفسيره للآية "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم .." النور: 55، يقول المودودي: "إن الله وعد جميع المؤمنين بالاستخلاف ولم يقل إنه يستخلف واحدا منهم، فالظاهر من هذا أن المؤمنين كلهم خلفاء الله، وهذه الخلافة .. عمومية لا يستفيد بها فرد أو أسرة أو طبقة، بل كل مؤمن خليفة عن الله، وكل واحد مسئول أمام ربه من حيث كونه خليفة" .. إذن لا سلطة في الأرض تعلو على سلطة الشعب، ولا أحد يمكنه أن يتولى أي سلطة إلا بإرادة الشعب، ولا أن يفرض فهمه إلا إذا أقنع به الشعب، إن الأمة هي الخليفة في الأرض، وهي توكل من تشاء وتفوضه في بعض أمورها، توكل فردا أو توكل مجموعة يقودونها قيادة جماعية .. توكل كل الأمر لجهة واحدة أو تفرقه بين عدة جهات تحدد لكل منها صلاحياتها، وتراقبها، وتحاسبها، وتعزلها إن رأت ذلك .. أما كيف تفعل، كيف تحدد عدد الجهات، وكيف تختار الأشخاص في كل جهة، والسلطات التي ستعطيعها لهم ليقوموا بواجباتهم، وكيف تتأكد أن هؤلاء الأفراد لا يتجاوزون السلطات الممنوحة لهم، ولا يسيئون استغلالها، وما هي إجراءات عزل الوكلاء .. هذه كلها فصول في قصة أخرى، هي قصة النظام السياسي الذي تتحقق به خلافة الأمة شورى بين أبنائها .. لابد من آليات واضحة للقيام بكل ذلك، وإذا لم تكن تعرف آليات أخرى غير الديموقراطية فطبق ما وصل إليه الناس إلى أن يفتح الله عليك بفهم أفضل مما وصل إليه الآخرون .. هذه هي الشورى وليست شيئا آخر، هدانا الله للحق، وغفر لنا ما قد يعتور كلامنا من زلل.