منذ 6 سنة | 3501 مشاهدات
تمر المراجع الأكاديمية المخصصة لطلبة علم الإقتصاد (حتى في مقررات الدراسات العليا) على موضوع فوائد البنوك كأنه من حقائق الحياة التي لا يحتاج وجودها إلى تفسير ولا يحتاج دورها إلى تقييم، ففي الإقتصاد الجزئي (إقتصاديات المنتج والمستهلك) يقولون لك أن الفوائد هي تكلفة رأس المال، ثم يستكملون التحليل دون أن يرمش لهم جفن، وفي الإقتصاد الكلي (إقتصاد الدولة) يخبرونك أن سعر الفائدة هو الضابط الذي ينظم العلاقة بين الإدخار والإستثمار، ويغرقونك بفصول عديدة، ويكتبون معادلات طويلة، ليشرحوا لك الكيفية التي ينبغي أن يتعامل بها صاحب القرار الإقتصادي مع سعر الفائدة في الحالات المختلفة، لكني لم أجد في أي مرجع دراسي أي تلميح إلى أن نظام البنوك قد تكون له آثار سلبية على الإقتصاد، أو أنه من الممكن التفكير في طرق أخرى لجمع المدخرات وتمويل الإستثمار.
أما في المراجع المتخصصة فيسمح بعض كبار الإقتصاديين الليبراليين لأنفسهم بشرح عدد من السلبيات الكامنة في طبيعة نظام التمويل الربوي، لكنهم ينظرون إلى المعاملات الربوية كأنها ظاهرة طبيعية علينا أن نتعامل معها كما هي، كما نتعامل مع سائر الظواهر، فالشتاء قارص البرودة، والصيف لافح الحرارة، والبراكين والزلازل تفاجئنا أحيانا ولا نملك لها دفعا، وكل ما نستطيع القيام به هو محاولة التنبؤ بمواعيدها وأماكن حدوثها لتقليل أضرارها، ثم معالجة هذه الأضرار إذا أصابتنا، لكن عاقلا لا يفكر في بحث إمكانية تعديل نظام الطبيعة للتخلص من هذه الظواهر .. لم أقرأ لواحد من الليبراليين أن هناك أي إحتمال لتعديل نظام جمع المدخرات وتمويل الإستثمارت بدون الإعتماد على الفوائد، كأنها قدر مقدور لا فكاك منه.
هذه المشاكل التي يتحدثون عنها تتركز في قضيتين، الأولى هي أنه بسبب نظام التمويل الربوي فإن دورات الركود والإنكماش العادية التي تعاني منها الأسواق بشكل دوري طبيعي غدت أضرارها في العصر الحديث أكثر فداحة، وخسائرها أشد جسامة، بسبب ما تتحمله المشروعات من فوائد للبنوك، ولولا هذه الفوائد لكانت فترات الركود أشبه بإستراحات إجبارية للإقتصاد، والقضية الثانية هي أن نظام التمويل البنكي يدعم ظاهرة إتجاه الإقتصاد إلى التركز في أيدي عدد قليل من المشروعات العملاقة، مبتعدا عن المنافسة الصحية، ومقتربا من حالة الإحتكار، للدرجة التي فقد معها نظام السوق الحرة قدرا كبيرا من حيويته وقدرته على تحقيق مصالح المجتمع .. سنفرد لهاتين القضيتين مقالا مستقلا، المهم هنا هو أن نؤكد أن بعض كبار الإقتصاديين يعرفون أن نظاما للتمويل يخلو من فوائد البنوك سيكون أفضل للتنمية الإقتصادية وللعدالة الإجتماعية، لكنهم لا يجرؤون على طرح أي بديل، بل على العكس، يدفنون آراءهم هذه في جوانب كتبهم التي لا تكتب للطلبة (ولا للعامة بالطبع).
أما الماركسيون فيذكرون هذه الأضرار، وبلغة زاعقة عنيفة، لكنهم لا يتوقفون عندهما كثيرا، فهم لا يهدفون من العرض إلا إلى بيان فساد النظام الرأسمالي وسوقه الحرة وإنعدام كفاءته مقارنة بالنظام الإشتراكي، إنهم يريدون إلغاء الملكية الخاصة والسوق الحرة من الأصل، لذلك لا ينشغلون بكيفية معالجة هذه الأمراض، فهم سيقتلون المريض وستنتهي مشاكله، ومع ذلك فإن حسابات الإقتصاد الإشتراكي تحتوي على سعر الفائدة كتكلفة لرأس المال بإعتبارها واحدة من تقنيات التخطيط الشامل فقط، وذلك لتقييم المشروعات عند توزيع موارد الدولة على القطاعات الإنتاجية المختلفة.
أما بالنسبة لنا فإن الكارثة الأكبر التي سببها نظام البنوك، والذي لم يكن ليوجد من الأصل لولا قبول المعاملات الربوية وشيوعها، فهي إنتهاء عصر النقود الحقيقية، وسيادة ظاهرة النقود الوهمية التي لا تحمل أي قيمة في ذاتها، فتتغير بذلك قيمتها صعودا وهبوطا بسبب قرارات سياسية أو مؤامرات لبيوت المال العولمية، وتتعرض الفاعليات الإقتصادية في العالم كله لهزات عنيفة وكوارث كبيرة نشعر بأثرها جميعا، وفي كل مرة تحدث فيها واحدة من هذه الكوارث لا يثير أحد من الإقتصاديين أو السياسين قضية أن جوهر المشكلة هو في هذه النقود التي ليست لها أية قيمة حقيقية .. هذا في نظرنا هو أخطر ما في نظام البنوك القائم على التعامل بالفائدة، لكنه يحتاج لشرح مطول ليس هذا مجاله.
الخلاصة أن المعاملات الربوية وباء يجتاح العالم كله، لكنه يعمل بطريقة خاصة، فأضرارة تصيب الأغلبية الساحقة من الناس، لكن خسائرهم تصب في جيوب فئة شديدة الصغر، لا يتجاوز عددها بضعة مئات من الأفراد يكادون يسيطرون على كل أموال العالم، لذلك لا يجرؤ أحد على الجهر بأنه سبب البلاء، وبضرورة إجتثاثه قبل أن يؤدي إلى تحلل النظام الإقتصادي العالمي، ولله الأمر من قبل ومن بعد.